قصة عفو الرسول صلى الله عليه وسلم عن اهل مكة
فكرة العفو التام الكريم ليست فكرة سهلة، بل تحتاج إلى شخص شجاع ومؤمن كامل الإيمان. قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك”. ونواجه جميعا صعوبة في تطبيق هذه الفكرة على المسلمين، فما بالنا إذا كان التطبيق على غير المسلمين، كما فعل رسول الله يوم فتح مكة العظيم، في مشهد مليء بالتسامح والعفو المطلق غير المشروط. ويقول ابن القيم عن هذا اليوم العظيم: “إنه الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين، وأنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا .
معاناة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش
على مدى سنوات طويلة جدا عانى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه جميعا من إيذاء قريش لهم، سواء جسديا أو نفسيا، حيث لم تتركهم قريش لا في مكة ولا في المدينة، ففي يوم أحد قتلت قريش سبعين شخص من أفضل الصحابة، ولم يكتفوا بذلك، بل قاموا بتمثيل جثثهم، وكان في مقدمتهم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، كما قاموا بإيذاء رسول الله جسديا في هذه المعركة، حتى انفجرت الدماء من وجهه الكريم، وكان لا يستطيع حينها أن يصلي إلا جالسا، وظلت قريش محاصرة للرسول وأصحابه في الجبل، وفي ظل كل هذا الألم الذي يشعر به الرسول كان يردد ” رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ” .
أما في يوم الأحزاب فقد فمنعت قريش الرسول صلى الله عليه وسلم من الدخول إلى مكة لزيارة الكعبة، وكان ذلك في العام السادس من الهجرة، عن طريق جمع عشرة آلاف مقاتل من الجزيرة العربية ليمنعوا الرسول وأصحابه الكرام، والذي أدى بعد ذلك إلى صلح الحديبية، الذي لم تلتزم به قريش بل نقضته، وهو ما أدى إلى ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعه جيش كبير ليدخل إلى مكة ويفتحها، بعد أكثر من عشرون عاما مضت من الاضطهاد والمهانة من قريش، وكان فتحا عظيما، وقف بعدها أهل قريش في ذلة أمام رسول الله، ينتظرون حكما قاسيا بالقتل أو النفي أو الاسترقاق .
يوم فتح مكة
كان جيش المسلمين مكون من 10 آلاف مقاتل، وكان ذلك في يوم العاشر من رمضان في السنة الثامنة من الهجرة، ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا، ولكنه لم يدخل متكبرا متعاليا، وإنما دخل بتواضع شديد على ناقته في هدوء، وقد أحنى رأسه إلى أسفل، تواضعا لله سبحانه وتعالى، حتى كاد ذقنه يمس واسطة الرحل، وقد دخل وهو يردد سورة الفتح، ويتذكر نعم الله عليه، وكيف خرج من مكة مطرودا، وعاد إليها اليوم منصورا، وكلما تذكر فضل الله عليه ازداد انحناء وتواضع .
عفو رسول الله عن أهل مكة
في هذا اليوم العظيم، كان عفو الرسول صلى الله عليه وسلم عفوا جميلا يليق به. وفي هذا الوقت، قال جملته الشهيرة لكل من أذاه هو وأصحابه: `ما ترون أني فاعل بكم؟`، فقالوا: `خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم`. فقال لهم: `أقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. اذهبوا فأنتم الطلقاء`. وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا مثالا ودرسا في أخلاق الفتح والنصر، ومثالا لحسن الأخلاق في نشر الدعوة، ومثالا في قمة التواضع عند التعامل مع الأعداء .
أثر هذا العفو الكريم على أهل مكة
إن عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل مكة يوم الفتح العظيم، كان له تأثيرا كبيرا في قلوبهم، وجعلهم يدخلون في دين الله مجموعة كبيرة من الرجال والنساء، الأحرار والعبيد، حتى دخلت مكة تحت راية الإسلام، فالدين هو التعامل الحسن. إن النبي الكريم قد شرح دين الله بعفوه الجميل ومعاملته الحسنة، لأنهم لطالما آذوه وقتلوا من أصحابه الأفضل، ليتحقق قول الله العلي القدير فيه: `وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين` وقوله تعالى: `وإنك لعلى خلق عظيم`، وهذا الدرس السامي الذي أعطاه النبي في العفو، ليكون عبرة لجميع الأجيال المسلمة الحالية .