سبب نزول الآية ” فسيحوا في الأرض أربعة أشهر “
قال الله تعالى: `فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين` [سورة التوبة: 2]
سبب نزول الآية القرطبي
فيه ثلاث مسائل: هناك نوعان من التأجيل المذكور في آية {فسيحوا}؛ الأول هو تأجيل إعلان الحرب، فالأنصار كانوا يريدون الدفاع عن المدينة، ولكن الله أمر بالتأجيل. الثاني هو تأجيل حكم الإعدام لبعض المشركين الذين سامحهم النبي، وكان الله يخبره بأنه سيتم تأجيل حكمه عليهم لمدة أربعة أشهر قبل إعلان الإعدام أو الصفح عنهم.
ثم تكون هناك حرب في سبيل الله ورسوله وللمؤمنين، حيث يقتل حيثما يلمس ويأسر إلا إذا تاب واستدان هذا الأمر يبدأ في يوم الحج الأكبر وينتهي بعد عشرة أيام من شهر ربيع الآخر. أما بالنسبة لمن لم يكن له عهد محدد، فإن أجله هو انتهاء الأشهر الحرم الأربعة، وهذا يعتبر خمسون يوما: عشرون يوما في ذي الحجة وثلاثين يوما في المحرم. وقال الكلبي: إن الأشهر الأربعة تطبق على من كان لديه عهد محدد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تجاوزت الأربعة أشهر، وأما من كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر، فهو الذي أمر الله أن يتم مدة عهده بقوله `فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم` [التوبة: 4]، وهذا هو اختيار الطبري وغيره.
وذكر محمد ابن إسحاق ومجاهد وغيرهما: تم نزول هذه الآية في أهل مكة. وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح قريشا في عام الحديبية، على أن يضعوا الحرب لمدة عشر سنوات، حيث يكون الناس آمنين ويتوقفون عن القتال بعضهم البعض. دخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل بنو بكر في عهد قريش، ثم عاد بنو بكر على خزاعة وخرقوا عهدهم.
وكان سبب ذلك دمًا كان لبني بكر عند خزاعة قبل الإسلام بمدة، فلما كانت الهدنة المنعقدة يوم الحديبية، أمن الناس بعضهم بعضا، فاغتنم بنو الديل من بني بكر – وهم الذين كان الدم لهم – تلك الفرصة وغفلة خزاعة، وأرادوا إدراك ثأر بني الأسود بن رزن، الذين قتلهم خزاعة، فخرج نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة، حتى بيتوا خزاعة واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقوم من قريش أعانوهم بأنفسهم.
انتهكت خزاعة اتفاق الصلح الذي تم بينهم وبين الرسول يوم الحديبية، عندما خسروا في معركة مشهورة. خرج عمرو بن سالم الخزاعي وبديل بن ورقاء الخزاعي وبعض أفراد خزاعة، وطلبوا المساعدة من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن تعرضوا للهجوم من بني بكر وقريش. وألقى عمرو بن سالم قصيدة في هذا الصدد
أناشدالله بمحمد الذي حلف به أبي وأبوه الأتلد
كنت لنا أبا وكنا ولدا، ثم أسلمنا ولم نترك الإسلام أبدًا
أنصره الله في جهاده ** وزده من فضله رفادا
ومنهم رسول الله قد تجردا بياضًا كشمس ينموان صعودًا
إذا تم خسف وجه سيم ، فسيتحول إلى تربة في جيش يتدفق كالبحر
قريش خالفت الموعد وانتهكوا العهد المؤكد
زعموا أنني لا أدعو أحدًا وهم أقل الناس شأنًا وأكثرهم ذلًّا
هم يهاجموننا بالبنادق والمدافع ، ويقتلوننا ونحن نسجد ونركع
فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم : « لا نصرت إن لم أنصر كعب ». ثم نظر إلى سحابة فقال : « إنها لتستهل لنصر بني كعب » يعني خزاعة. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم لبديل بن ورقاء ومن معه : « إن أبا سفيان سيأتي ليشد العقد ويزيد في الصلح وسينصرف بغير حاجة ». فندمت قريش على ما فعلت، فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليستديم العقد ويزيد في الصلح، فرجع بغير حاجة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما هو معروف من خبره.
توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة حتى فتحها الله، وذلك في السنة الثامنة من الهجرة. وعندما وصل إلى هوازن بعد فتح مكة، جمعهم مالك بن عوف النصري، بمساعدة غزاة حنين الذين انضموا إليه. وكان النصر للمسلمين في هذه المعركة، والتي وقعت في أول شهر شوال من السنة الثامنة من الهجرة. وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم توزيع الغنائم من الأموال والنساء، فلم يقسمها حتى وصلوا إلى الطائف، حيث حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لمدة ٢٤ ليلة. وهناك من يزعم أن الأمور كانت مختلفة. وقد استخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المنجنيق لمهاجمة الأعداء في تلك المعركة، وفقا للتقارير المعروفة عن ذلك الوقت.
بعد ذلك، عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة وقسم الغنائم المأخوذة من غزوة حنين وفقا لما يعرف عنها. ثم غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس. وفي تلك السنة، أقام الحج عتاب بن أسيد، وهو أول أمير يقيم الحج في الإسلام. وقد حج المشركون وفقا لمعتقداتهم الوثنية. عتاب بن أسيد كان رجلا صالحا وفاضلا. قدم كعب بن زهير بن أبي سلمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه، وألقى قصيدته التي بدأت ببيت يقول: `بانت سعاد فقلبي اليوم متبول` واستمرت حتى النهاية، وأشاد فيها بالمهاجرين. وقد سبق أن قام بومادة تنتقد فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فعاتبه الأنصار لأنه لم يذكرهم فيها. فألقى بعدها قصيدة أخرى يمدح فيها الأنصار. ثم استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد عودته من طائف وشهور ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الأول وجمادى الآخر. وفي شهر رجب من التاسعة هجرية، خرج المسلمون في غزوة تبوك، وكانت تلك هي آخر غزوة شنها.
قال ابن جريج عن مجاهد : بعد عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ورغبته في أداء الحج، قال: `سيأتي البيت مشركون عراة يطوفون به، وأنا لا أرغب في أداء الحج وأنا في تلك الحالة`. فأرسل أبو بكر ليكون أميرا لحجاج الحج، وأرسل معه أربعين آية من سورة البراءة ليقرأها على الناس في الموسم. وعندما خرج أبو بكر، دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليا وقال: `خرج بهذه القصة من سورة البراءة واذهب بها إلى الناس عندما يجتمعون`.
خرجت على ناقة النبي صلى الله عليه وسلم العضباء، حتى وصلت إلى ذي الحليفة حيث كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه. فقال لي أبو بكر عندما رآني: `أمير أو مأمور؟` فأجبته: `بل مأمور.` ثم قمنا وعاد أبو بكر للناس إلى منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية. وفي كتاب النسائي عن جابر وأن عليا قرأ على الناس `براءة` حتى ختمها قبل يوم التروية بيوم. وفي يوم عرفة وفي يوم النحر عند انقضاء خطبة أبي بكر في الثلاثة الأيام. فلما كان يوم النفر الأول، قام أبو بكر فخطب الناس، ثم قام علي وقرأ على الناس `براءة` حتى ختمها.
وقال سليمان بن موسى : عندما خطب أبو بكر في عرفات، قال: `قم يا علي وأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم`، فوقف علي وأدى الرسالة. ثم قال: `ثم تذكرت أن جميع الناس لم يحضروا خطبة أبي بكر، فقررت أن أتبع الجماهير يوم النحر`. وروى الترمذي عن زيد بن يثيع قوله: `سألت عليا بماذا أرسلت في الحج؟` فأجاب: `أرسلت بأربعة: أن يطوف بالبيت عريانا، وأن من عهد له بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فليفعل حتى ينتهي مدته، وأن من لم يكن له عهد فليؤجله أربعة أشهر، وأن لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وأن المسلمين والمشركين لا يجتمعون بعد هذا العام`. فقال: `هذا حديث حسن صحيح`. ورواه النسائي
وقال: كنت أنادي حتى أصبح صوتي مسموعا. قال أبو عمر: بعث علي لأنبئ كل من له عهد بأنه لا يحج بعد هذا العام كافرا، ولا يطوف بالكعبة عريانا. وأقام أبو بكر الحج في العام التاسع. ثم أدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجة بعد حجته الأولى من المدينة، وقعت حجته في ذي الحجة وقال: `إن الزمان قد تدور…` كما يأتي في تفسير آية النسيء. وثبت الحج في ذي الحجة حتى يوم القيامة.
وذكر مجاهد : حج أبو بكر في ذي القعدة من سنة تسع. وكانت الحكمة في إعطاء `براءة` لعلي تضمن نقض العهد الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت سيرة العرب تنص على أنه لا يجوز إلغاء العهد إلا من قام بعقده أو من أهل بيته. فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يثبت حجيته ويرسل ابن عمه الهاشمي من بيته لينقض العهد، حتى لا يبقى لهم من يتحدث. وهذا هو المعنى المقصود.
الثالثة: قال العلماء: يعني أن الآية تسمح بقطع الاتفاق بيننا وبين المشركين في حالتين. الأولى هي عندما ينتهي الوقت المحدد في الاتفاق، ونؤذن لهم بالحرب بعد ذلك، والقرار بدء الحرب يتخذ بمشيئة الطرفين. والحالة الثانية هي عندما نشعر بأنهم قد يخونونا، فيمكننا إلغاء الاتفاق كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما أمر بالقتال.