تفسير ” قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم “
{قال يا أيها الملأ، أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن: أنا آتيك به قبل أن تنهض من مقامك، وإني على ذلك قوي أمين، قال الذي عنده علم من الكتاب: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، فلما رآه مستقرا عنده قال: هذا من فضل ربي لأبتليني أشكر أم أكفر، ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه، ومن يكفر فإن ربي غني كريم}” [سورة النمل: 38-40].
تفسير الآيات بن كثير:
{قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}: قال محمد بن إسحاق: فلما رجعت إلى بلقيس ملكة سبأ الرسل بما قال سليمان قالت: قد والله عرفت ما هذا بملك وما لنا به من طاقة، وما نصنع بمكابرته شيئاً، وبعثت إليه إني قادمة عليك بملوك قومي لأنظر ما أمرك وما تدعونا إليه من دينك، ثم أمرت بسرير ملكها الذي كانت تجلس عليه، وكان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ فجعل في سبعة أبيات، ثم أقفلت عليه الأبواب، ثم قالت: لمن خلفت على سلطانها احتفظ بما قبلك وسرير ملكي، فلا يخلص إليه أحد من عباد الله، ولا يرينه أحد حتى آتيك.
ثم توجهت إلى سليمان وطلبت منه اثني عشر ألفا من الجن ليأتوا إليه كل يوم وليلة، يحملون مسيرتهم ومنتهاهم، وعندما جمع من الجن والإنس الذين كانوا تحت سيطرته، قال: {يا أيها الملأ، من يملك القدرة على جلب عرشها قبل أن يسلموا لي؟} وفيما يتعلق بذلك، قال قتادة: “عندما علم سليمان بقدومها، أعجبها وذكر لها عرشها الذي كان مصنوعا من الذهب واللؤلؤ والجواهر، وكان مغطى بالحرير والديباج، وكان لها تسعة مفاتيح، وقرر سليمان أن يأخذها بعد إسلامهم، ولكن النبي المكرم علم أنه عندما يسلموا، ستحرم أموالهم ودماؤهم، فقال: {يا أيها الملأ، من يملك القدرة على جلب عرشها قبل أن يسلموا لي؟}” وعلى هذا الأساس، قال عطاء الخراساني والسدي: “قبل أن يسلموا لي، فإذا سلموا فستحرم أموالهم ودماؤهم علي.
{قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ}: يا جني، سأحضر لك هذا السرير قبل أن تنهض من مقعدك. قال ابن عباس: يعني قبل أن تقوم من مجلسك، وقال مجاهد: مقعدك، وقال السدي وغيره: كان يجلس للناس للقضاء والحكومات من أول النهار إلى أن تزول الشمس، وأنا على السرير قوي وأمين. قال ابن عباس: أي أنا قوي على حمل السرير وأمين على ما فيه من الجواهر. وقال سليمان عليه السلام: أريد أن أجلب السرير قبل ذلك، ويبدو من هذا أن سليمان يريد إظهار عظمة الملك الذي وهبه الله له وكبرياءه، ويستخدم ذلك لإثبات نبوته أمام بلقيس وقومها، لأنه لم يحدث من قبل أن يأتي أحد بمثل هذا الخارق العظيم ويقدمه قبل أن يتم طلبه، وقد حجبته بالإغلاق والأقفال والحفظة.
عندما قال سليمان أنه يريد الإسراع بذلك، قال الشخص الذي لديه معرفة من الكتاب: اسمه آصف وهو كاتب سليمان عليه السلام. وروي أيضا عن يزيد بن رومان أنه آصف بن برخياء وكان صديقا لسليمان ويعرف الاسم الأعظم. وقال قتادة: كان مؤمنا من الإنسان واسمه آصف، وأيضا قال أبو صالح والضحاك وزاد قتادة: كان مؤمنا من بني إسرائيل. وقال سليمان: {سأحضره إليك قبل أن يرتد إليك طرفك}: أي ارفع بصرك وانظر، فإنه سيكون حاضرا بالفعل. وقال وهب بن منبه: امتداد بصرك لن يصل إلى مدى ما سأحضره لك، ثم توضأ ودعا الله تعالى، وقال مجاهد: يا ذا الجلال والإكرام، قال ذلك سليمان.
وقال الزهري قال: يا إلهنا وإله كل شيء، إلها واحدا، لا إله إلا أنت، ائتني بعرشها”، فقال: “فعرشها كان بين يديه”. ولما رآه سليمان والملؤون وجدوا أنه مستقر عنده، فقال سليمان: “هذا من فضل ربي، أي هذا من نعمة الله علي، ليختبرني، أشكر أم أكفر؟ ومن يشكر، فإنما يشكر لنفسه”، كما قال: “من عمل صالحا فلنفسه، ومن عمل سيئا فعليه”، كما ذكر في سورة فصلت الآية 46، وفي سورة الروم الآية 44، “ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون.
{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}: إنه ليس بحاجة إلى عبادة الناس، بل هو كريم في ذاته، وإن لم يعبده أحد، فعظمته لا تحتاج إلى أحد، وهذا ما قاله سيدنا موسى: `إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد` [سورة إبراهيم: 8]. وفي صحيح مسلم: `يقول الله تعالى: يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا جميعا على أتقى قلب رجل منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا جميعا على أكثر قسوة قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي، إنما هي أعمالكم التي أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه`.