تعريف الإبستمولوجيا
يُعد مفهوم الإبستمولوجيا من أهم المفاهيم الفلسفية بشكل عام، والفكرية بشكل خاص. وهو مصطلح استخدم لأول مرة من قبل الفيلسوف الإسكتلندي جيمس فريدريك فيرير. فما هي الإبستمولوجيا؟ وما هي جذورها التاريخية؟ وما هي أهم المفاهيم التي تنبثق عن هذا المفهوم؟
مفهوم الإبستمولوجيا
يتكون مفهوم الابستمولوجيا من كلمتين وهما إبستيم episteme، و يقصد بها العلم، و لوغوس logos، التي يقصد بها النظرية أو الدراسة، ومنه فإن المعنى الكامل لمفهوم الإبستمولوجيا يفيد نظريّة العلوم أو دراسة العلوم أو نظرية المعرفة، أي الدراسة العلمية للمعرفة بدراسة حدودها وقيمتها وأصولها.
و قد تعددت اصطلاحات الفلاسفة حول كلمة ابستمولوجيا، حيث يعرفها المعجم الفلسفي لالاند بقوله:” هي فلسفة العلوم، لكن بمعنى أكثر دقة لا تخص الابستمولوجيا فقط دراسة المناهج العلمية التي هي موضوع الميتودولوجيا و التي تعد جزء من المنطق، كما أنها ليست تركيبا أو توقعا حدسيا للقوانين العلمية على الطريقة الوضعية أو التطورية، إنها في جوهرها هي الدراسة النقدية لمبادئ و فرضيات و نتائج مختلف العلوم، و الهادفة إلى تحديد أصلها المنطقي لا النفسي، و قيمتها و مدى موضوعيتها.
يقدم المعجم الفلسفي في التعريف رؤية تحدد مهمة الابستمولوجيا في البحث عن المبادئ والأسس التي تستند إليها المختلفات العلوم، وفحص الفرضيات التي تستخدمها لاستخلاص النتائج، وهي دراسة نقدية تبين صحة النتائج وتماسكها وحدودها وقيمتها، أي البحث في موضوعيتها وقيمتها العلمية بغض النظر عن أصولها. لذلك، فإن الابستمولوجيا هي دراسة نقدية تهتم بالبحث عن شروط المعارف العلمية، وبتعبير آخر، هي الدراسة النقدية للمعرفة العلمية. ويسبق هذا التحديد الأولي الذي وضعه لالاند التعريف بتحديدات غامضة، حيث لم يحدد حدودا واضحة بين الابستمولوجيا والدراسات المعرفية الأخرى المختلفة.
ما هي جذور الإبستمولوجيا
يعود هذا المفهوم إلى الفلسفة اليونانية كممارسة فقط، ولم يظهر كمفهوم وعلم مستقل بذاته، ويعود التاريخ الحقيقي لهذا المفهوم إلى القرن الثامن عشر مع الفيلسوف الأسكتلندي جيمس فريديريك فيرييه (1808-1864) الذي وضع هذا المصطلح في كتابه “مبادئ الميتافيزيقا” عند تمييزه بين مبحث الوجود (أنطولوجيا) ومبحث المعرفة (ابستمولوجيا).
الإبستمولوجيا في المعنى المعاصر
تُعنى الإبستمولوجيا في معناها المعاصر بالدراسة النقدية للمعرفة العلمية، وتركز على البحث النقدي لمبادئ العلوم وموضوعاتها وفرضياتها ونتائجها وقوانينها وحدودها، بهدف إبراز منطقها الداخلي ونسقها المعرفي.
مفاهيم مرتبطة بالإبستمولوجيا
ظهرت عدة مفاهيم مهمة في سياق الإبستمولوجيا، منها مفهوم القطيعة الإبستمولوجية والعائق الإبستمولوجي والمحرك الإبستمولوجي، بالإضافة إلى مفاهيم أخرى نشأت منها مثل الإبستمولوجيا التكوينية.
القطيعة الإبستمولوجية
ظهر هذا المفهوم في البداية مع الفيلسوف الفرنسي `غاستون باشلار`، ويقصد به أن تاريخ العلم والأفكار يتشكل من خلال قطائع وليس من خلال سلسلة متسلسلة ومتصلة ببعضها البعض. يتم تحقيق هذه القطيعة عن طريق العلم، حيث يتغير اتجاهه ومجراه تغييرا جذريا في مبادئه وقوانينه وأهدافه. فالعلم لا يتطور فجأة وبشكل مفاجئ، ولكنه يتطور عبر مراحل ومن خلال تصحيح الأخطاء. يقوم المتابع في العلم بتصحيح ما سبقه. وعبر الفيلسوف الفرنسي باشلار، تم التعبير عن فكرة القطيعة الإبستمولوجية، حيث يعتبر تاريخ العلم تاريخا للأخطاء. فالنظرية العلمية لا يمكن أن تظل صالحة إلى الأبد، حيث تصبح مع مرور الوقت غير صالحة أو غير قادرة على تفسير جميع الظواهر التي تواجهها من واقعها. لذلك يصبح من الضروري تطوير نظرية جديدة أكثر تكيفا وتوافقا مع الحقائق.
أمثلة حول القطيعة الإبستمولوجية
من الأمثلة التي توضح معنى القطيعة الابستمولوجية، تلك القطيعة التي وسعت من نطاق الهندسة الأقليدية بإبتكار هندسات لا أقليدية طورت مفهوم الفضاء بشكل عام ، و كذلك مسألة القطيعة بين الفيزياء الكلاسيكية التي ميزت الفترة الحديثة ، و الفيزياء المعاصرة ، وكذلك القطيعة الإبستمولوجية بين مبادئ علم اجتماع كونت و علم اجتماع ماكس فيبر، بشكل مختصر إن القطيعة الإبستمولوجية هي صفة تميز الفكر الإنساني، وبدون قطيعة إبستمولوجية سيصبح الفكر جامدا في مكانه.
العائق الإبستمولوجي
يقصد بالعائق الإبستمولوجي كل ما يعترض سبيل العلم فيعرقل تقدمه و يعطل سيره ويخرجه عن منحاه ، و يرتبط هذا الإصطلاح أيضا بباشلار ، الذي بين أن العوائق ليست عوائق خارجية تتعلق بتعقد الظواهر المدروسة ، و لا هي متعلقة بضعف حواسنا و محدودية عقلنا البشري ، بل هي عوائق نفسية قبل كل شيء ، لأن أهم ما يجمد تطور العلم هو التشبت بالأحكام المسبقة و الآراء الشخصية ، و رفض كل جديد مخالف لما تم التعود عليه، وهذه العوائق الإبستمولوجية يمكن أن تكون عوائق إجتماعية ونفسية ، أو دينية وأخلاقية.
أمثلة حول مفهوم العائق الإبستمولوجي
هناك العديد من الأمثلة التي يمكن أن تقدم حول العائق الإبستمولوجي، مثل العائق الديني الذي يتجلى في الاضطهادات التي تعرض لها علماء الفلك في الحقبة الحديثة، وبشكل خاص جيراردو برونو الذي تعرض للحرق من قبل الكنيسة بسبب تجاوزه النمط التفكيري المسيحي من خلال الدفاع عن مركزية الشمس وحركة الأرض حولها، وهو مخالف للاعتقاد المسيحي الذي يعتبر أن الأرض هي المركز والشمس تدور حولها. وكذلك تجاوز العالم غاليليو غاليلي الذي دافع عن نفس الفكرة التي قدمها جيراردو برونو، وهي التأكيد على مركزية الشمس بدلا من مركزية الأرض، مما أدى إلى محاكمته من قبل البابا وجعله يتنازل عن أفكاره ويتراجع عنها.
مفهوم المحرك الإبستمولوجي
يعني مفهوم المحرك الإبستمولوجي كل التأثيرات التي تتعرض لها العلم والتي تساهم في تطوره، وتشمل مجموعة من المحركات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهذا يعني أن التقدم الاقتصادي أو السياسي والاجتماعي يساهم في تحريك العلم نحو التحسين.
أمثلة حول المحرك الإبستمولوجي
من بين الأمثلة التي يمكن تقديمها حول المحرك الابستمولوجي، يأتي تحول أوروبا في العصر الحديث من نمط المجتمع الإقطاعي والفلاحي إلى المجتمع الصناعي كمثال. هذا التحول ساهم في تقدم العلم وتطوره، ولنوضح معنى المحرك الابستمولوجي بمثال آخر، يمكن الإشارة إلى الانتقال الجذري الذي حدث في أوروبا في القرن السابع عشر حينما تحرر العلم من سيطرة الكنيسة وفصل الدين عن الدولة، مما سمح للعلم بالتقدم والتطور.
الإبستمولوجية التكوينية
يعد مبحث الإبستمولوجية التكوينية من أبرز المباحث التي إنبثقت من الإبستمولوجيا ويعتبر العالم و الطبيب النفسي “جان بياجيه”، هو المؤسس لهذا المبحث، ويقصد بالإبستمولوجيا التكوينية الدراسة العلمية التي تجعل المعرفة العلمية ينظر إليها من زاوية تطورها وتكونها النفسي ، أي أنها تهتم بدراسة المعرفة دراسة سيكولوجية علمية .
ويعرف العالم الكبير جان بياجيه الإبستمولوجيا التكوينية بوصفها دراسة المعرفة، وبوصفها محاولة لتوضيح المعرفة العلمية استنادا إلى تاريخها، وإلى تكوينها الاجتماعي، وإلى الأصول السيكولوجية للأفكار والعمليات التي تعتمد عليها بصفة خاصة، و الإبستمولوجيا التكوينية تعتمد بشكل خاص على علم النفس، فعلم النفس كما يرى جان بياجيه، يستطيع أن يزود الفلسفة بمجموعة من المعطيات في مجال التفكير الإنساني .