الفيروسات التي تلتهم أمراض الإنسان
فيروسات تلتهم الأمراض وتتغذى على البكتيريا
إذا سمعت كلمة فيروسات، فعادة يخطر ببالك أنها كائنات دقيقة تمرض الإنسان وتفتك به، لذلك فإن الحديث عن الفيروسات عادة يكون للوقاية من أضرار الفيروس أو تناول علاج مضاد له، لكن ماذا سيكون إحساسك إذا عرفت أن هناك فيروسات استخدمها علماء في القرن الماضي لعلاج أمراض شديدة فتاكة؟
نعم، هناك فيروسات تتغذى فقط على البكتيريا الضارة في جسم الإنسان وتسمى `العاثيات`، حيث تقوم بالتغذية على البكتيريا عن طريق العدوى والتكاثر داخلها حتى تنفجر، مما يؤدي إلى قتل الميكروب وعلاج الشخص من أضرارها، وتتكون هذه الفيروسات من حزمة صغيرة من البروتين التي تستطيع اختراق البكتيريا واختطاف أجهزتها لتكون مئات النسخ الأخرى من نفسها، والتي تنفجر فيما بعد من الخلية المحتضرة.
يستخدم جسم الإنسان هذا بالفعل في دفاعاته الطبيعية، فهل تتخيل أن أنوفنا مليئة بالعاثيات التي يمكن أن تقتل الجراثيم في الهواء الذي نتنفسه؟.
توجد مليارات من هذه الفيروسات حول العالم، وتطورت بشكل مشترك مع البكتيريا التي تتغذى عليها لآلاف السنين، مما يساعد على الحفاظ على عددها تحت السيطرة.
أول من استخدم الفيروسات كعلاج
تم استخدام هذا النوع من الفيروسات كعلاج لأول مرة في عام 1919 عندما استخدمه عالم الأحياء الدقيقة الفرنسي الكندي فيليكس ديهيريل لعلاج صبي يعاني من إسهال دموي شديد ويعرف باسم `مرض الزحار`.
ساعد العالم جورج إليافا في إنشاء أول معهد بحث متخصص في العلاج باستخدام الفيروسات العلاجية.
توقف استخدام الفيروسات العلاجية
اكتشاف البنسلين في عام 1928 وإنتاجه التجاري في الأربعينيات من القرن الماضي أدى إلى عصر المضادات الحيوية، حيث استبدل العلاج بالفيروسات بشكل فعال.
تعاون ديهيريل مع جورج إليافا، الشاب الجورجي الذي سافر إلى فرنسا في عام 1923، والذي ذهب إلى فرنسا لدراسة تطوير اللقاحات، ولكن حول اهتمامه من اللقاحات إلى العلاج بهذا النوع من الفيروسات، وذلك بعد أن التقى بالعالم ديهيريل في معهد باستور، ثم دعاه إلى التعاون معه في إنشاء معهد بحثي ومركز علاجي متخصص في العلاج بذلك النوع من الفيروسات التي تعيش على البكتيريا الفتاكة بصحة الإنسان.
للأسف، تم القبض على إليافا في يد نظام جوزيف ستالين وأعدم في عام 1937، ولكن معهد إليافا الذي أسسه استمر في العمل على بحوث الفيروسات العلاجية وتطويرها برعاية سوفيتية، بعد سنوات من الإهمال من قبل العالم الغربي لهذا النهج.
العلاج بالفيروسات العلاجية كبديل للمضادات الحيوية
لم يتم قبول فكرة العلاج بالفيروسات العلاجية لفترة طويلة، ولكن فشل العلاج بالمضادات الحيوية في العديد من الحالات دعم فكرة البحث عن بديل، وفي عام 2001، تم علاج أول مريض أجنبي يعاني من التهاب العظم والنقي باستخدام الفيروسات العلاجية في معهد إليافا، وبعد نجاح العلاج، انتشرت أخبار فعالية العلاج بالفيروسات العلاجية، وزاد عدد المرضى الذين توجهوا إلى معهد إليافا.
تم علاج ملايين الأشخاص باستخدام الفيروسات العلاجية في الاتحاد السوفيتي السابق، ويستمر معهد إليافا في استقبال مئات المرضى من جميع دول العالم وعلاجهم بنجاح كل عام.
تجارب سريرية خاصة بالفيروسات العلاجية
أجريت أول تجربة سريرية أوروبية للعلاج باستخدام الفيروسات العلاجية تحت إشراف فرنسا. تم تنفيذها على مريض يعاني من جروح وحروق، وقد قامت المفوضية الأوروبية بتمويل هذه التجارب بمنحة قدرها 3.8 مليون يورو (3.38 مليون جنيه استرليني / 4.6 مليون دولار أمريكي). استمر العمل في هذا المشروع بين عامي 2013 و 2017، وقد استغرق الأمر عامين وكمية كبيرة من ميزانية المشروع لتصنيع الفيروسات العلاجية وفقا لمبادئ التصنيع الجيدة المحددة (GMP).
أظهرت التجربة أن الفيروسات العلاجية قد ساعدت في تقليل العبء البكتيري لدى بعض المرضى، ولكن بوتيرة أبطأ من العلاج القياسي.
كانت هذه خيبة أمل لأنصار العلاج بالعثيات، بما فيهم العاملين في معهد إليافا. وأوضح بعض المشرفين على هذه التجارب أن الفيروسات العلاجية يجب أن تتوافق مع البكتيريا المصابة بها لتحقيق أفضل النتائج. كما يجب تحديث المستحضرات الطبية بانتظام، مما يجعل من الصعب تلبية التوجيهات الغربية المصممة للمضادات الحيوية التقليدية.
يرى العديد من الناس أن العقبة الرئيسية في إنتاج معلقات للفيروسات العلاجية تكمن في قدرة تلبية متطلبات السلطات الصحية الفرنسية، حيث تم تم تقليل تركيز العوامل المستخدمة في الدراسة لتكون أكثر أمانًا وتتوافق مع إرشادات تصنيع الأدوية، وهذه الحقيقة تم طرحها حول نقص الدراسة في بعض المجالات.
موافقة بليجكا على استخدام الفيروسات العلاجية
وافقت دولة بلجيكا على استخدام الفيروسات العلاجية كأول دولة متطورة توافق على استخدامها كتحضيرات ماجسترال، أو دواء شخصي يمكن أن يعده صيدلي مؤهل بناءً على وصفة الطبيب، ولم يستطع المنظمون في مستشفى الملكة أستريد العسكري (QAMH) في بروكسل في بلجيكا، أن يتخذوا خطوات في العلاج باستخدام الفيروسات العلاجية بالرغم من اقتناعهم بفعالية وضرورة هذا النوع من العلاج، وتمت الموافقة الفعلية عندما أعطى وزير الصحة العامة تصريحا رسميًا يسمح لهم بالبدء في استخدام الفيروسات العلاجية في علاج المرضى وعمل مستحضرات دوائية منها تباع في الصيدليات.
منظمة الصحة العالمية تبحث عن بدائل للمضادات الحيوية
يموت حاليًا حوالي 700000 شخص كل عام بسبب عدوى مقاومة مضادات الميكروبات، وعلى الرغم من أن منظمة الصحة العالمية قد ذكرت مرارًا وتكرارًا الحاجة إلى إعطاء الأولوية لبدائل المضادات الحيوية، خاصة أن المضادات الحيوية ليست محددة وقد تقتل البكتيريا النافعة اثناء هجومها فهي كما يقال “تنفجر في جسمك مثل القنبلة النووية” – لكن العاثيات تتصرف مثل القناصين المدربين، وتلتقط البكتريا الضارة وتترك النافعة، ورغم ذلك لم تصدر منظمة الصحة العالمية قرارا رسميًا بإمكانية العلاج بالعاثيات، كما أن هناك مطالبات من علماء لمساعدة منظمة الصحة العالمية في توجيه الكثير من التمويل المطلوب إلى المزيد من الأبحاث السريرية وتجارب الفيروسات العلاجية للاستخدام العلاجي.
تغافل شركات الأدوية عن تطوير الفيروسات كعلاج
تعتبر الفيروسات العلاجية منتجات بيولوجية لا يمكن تسجيل براءات اختراع عليها، ولهذا السبب تجنبت معظم شركات الأدوية تمويل الأبحاث المتعلقة بتطويرها كمنتجات طبية. وهناك مخاوف من أن تتطور المقاومة للعلاج بالفيروسات العلاجية عند البكتيريا بمرور الوقت. ومن أجل تفادي هذه المشكلة، تم عزل الفيروسات العلاجية الجديدة من بين مليارات العينات المتوفرة في الطبيعة أو تدريبها في المختبرات على تطوير طرق جديدة لمهاجمة البكتيريا. كما تم تحديد بحث جديد حول نظام المناعة الدفاعية الذي يسمى نظام Crispr-Cas، والذي طورته البكتيريا لمواجهة الفيروسات العلاجية، والذي من الممكن أن يوفر أدلة كثيرة على كيفية محاربة المقاومة المحتملة للبكتيريا.
استخراج اللايسينات في المعامل البحثية
تعمل المعامل البحثية في الولايات المتحدة على الخوض في الفيروسات المعدلة وراثيًا واستخراج اللايسينات، وهي العامل النشط في الفيروسات التي تقتل البكتيريا، مما أثار اهتمام عمالقة الأدوية حيث يمكن تسجيل براءة اختراع لهذه الطرق، على عكس العاثيات الطبيعية المستخدمة حاليًا للاستخدام العلاجي.
وقعت شركة جونسون آند جونسون صفقة مبدئية بقيمة 20 مليون دولار (15 مليون جنيه إسترليني) مع Locus Bioscience للبحث والتطوير عن الفيروسات Crispr-Cas3 المحسّنة التي يمكن أن تدمر الآليات الدفاعية التي تطورها البكتيريا.
بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من الأسباب التي تجعل البكتيريا محور اهتمام الأطباء الراغبين في التغلب على مقاومة المضادات الحيوية. فعدد البكتيريا يفوق عددها عدد العاثيات بنسبة 10 إلى 1، وبمعنى آخر، في كل غرام من التربة، يوجد عدد من العاثيات أكبر من عدد سكان الكوكب في الوقت الحالي، مما يعني توفرا هائلا من العلاجات الجديدة المحتملة.