ها قد بدأ فصل الشتاء يلملم ما بقي منه من أيام ليرحل في هدوء تام، ويترك العنان للربيع ليفرش الجو بالألوان، فالربيع وما أجمل أيامه، حيث الشمس الدافئة والألوان المبهجة والزهور المتفتحة التي تعطر الأجواء بأجمل أريج، ففصل الربيع في حد ذاته هو انبعاث الحياة في الأرض والنبات والزهور، فتعود ألوان الطبيعية من جديد، وينعم الناس بكل الحب والهدوء، حيث تؤثر هذه الأجواء الجميلة على نفوس الجميع وأولهم الشعراء، الذين يتركون الحرية لأقلامهم أن تعبر عما بداخل نفوسهم من هدوء وسكينة بأجواء الربيع، حتى استطاعوا أن ينقلوا لنا في شعرهم صورة نابضة لأجواء الربيع لم تتمكن الصور الحقيقية نقلها، ومن ثم فإننا نعرض في هذا المقال أفضل ما قيل عن الربيع في الشعر العربي.
للشاعر بديع الزمان الهمذاني
برق الربيع يجلب لنا روعة أرضه وسمائه ببريقه المائي
يظهر هذا الزعيم جماله وصفاءه وكرمه
البحر في تزخره والغيث في أمطاره والجود في أنواءه
لا يزال هذا الإنجاز يحظى بمواهب وتطلعات تدور حوله
ويعتبر السادة الباقون سادة عصرهم ممدحين بمدحهم وثنائهم
للشاعر صفي الدين الحلي
ويشبه الياسمين عاشقًا تمزقت قلبه جراء غياب حبيبه وتجاهله له
انظر إلى جماله الزاهي وكأنه تذكير بعد فترة طويلة من الغياب
انظر إلى التنظيم الذي تم تفريغه بأقسامه وفتراته المختلفة
هل ترون الغيم الخفيف وما يظهر من أشكاله وتشكيلاته للعين؟
والسحب تتعقد في السماء كما تحتفل الأرض بعيدها ومناسباتها
تمزقت جيوبها فندبها شقيقها، واحمرت ورودها لتطبيق الطمّ على خديها
الماء في نهر دجلة يتدفق بحرية، والجسر محصور بالأصفاد والقيود
الغيم يحكي قصة الماء في تدفقه، والماء يحكي قصة الغيم في تشكيله
ابحث عن روضة جميلة ذات ظلال، فالحياة بين بساطتها وسخاءها
إبراهيم ناجي
جددي الحب واذكري لي الربيعا إنني عاشق للجمال تبعا
أتمنى أن يحيطني ورق الأيك وأتخذ مأوى خلف الزهور صريحًا
يا للأسف على رفقائي جميعًا ، اجعلنا جميعًا نجتمع في الربيع
لا تقل لي اشترِ المسرة والجاه، فأنا رجل يتمتع بحسن الرفاهية ولن أبيعها
فلغيري الدنيا وما في حماها إنني أعشق الجمال الرفيع
لأجله، عصيت وتم عقابي، وأقسمت ألا أطيع غيره
في فصل الربيع الجميل، أستمتع برؤية الزهور وشمها ولا أعاني من الجوع
فهو زادي إذا نفدت دنيتي وأشد عندي منازلا وأرضا
وقال أيضا :
يا ربيع العام، فداك شرق الأيام تشرقُ
بعد انتهاء الشتاء وانقضاء طول الحزن، أرنا ابتسامتك الجميلة
ارسل لنا نسمات هواء الربيع المعطرة المنعشة كأحلامنا
للشاعر بدر شاكر السياب
حلمٌ بآفاق السرور رسمته أجنحةُ الطيور، وبشائرٌ فوق الربى بين الخمائل في الصدور
وقد رقصت النسائم على زهر الجنائن والغدير، وطارت الفراشة بعيدًا عن زهرة الحقل النضير
تتسم طائرة الرياض بالصعود والهبوط كأنها نغمة موسيقية، ويبني الفجر للندى مكانًا جميلًا في الزهور
فلنبنِ بقبلاتنا حبًا في الأحضان
للشاعر عبد الله البردوني
ولد الربيع معطّر الأنوار، غرّد الهوى ومجنّح الأشعار
انتهت مواكبه على الأرض مثلما ينتهي العازف عن العزف على الأوتار
جذلان هو أحلى من محاورة المنى وأحب من نجوى الخيال الساري
أشدُّ لذَّةً من سحر الصبا، وأرقَّ من صمت الدموع ورعشة القيثارة
يأتي الربيع إلى الحياة كما لو كان يعيد الطفولة والحيوية
فصبت عليه الأرض الوقور وغردت وتراقصت فتن الجمال العاري
كأنه في كل وادٍ يوجد مرقصٌ يصدح صوت اللحون ويرقص المزمار
وبكل سفح يغني العاشق وبكل لسان يقرأ القارئ
للشاعر رشيد أيوب
مرحبًا يا ربيع، لقد اشتقنا إليك، يا ذو الروح الخفيفة، أهلاً وسهلاً
كلما أشرقت شمسك الجميلة، تباهت الأرض بجمال الكواكب
مشى بين ضلوعي صريعًا كأنما مات لولا ذكري أيام الصبا
يا للعجب، يمضي الزمان ويرجع، وربيعي مضى ولا يعود
من يرى أسرار الخلود في أنباك، لم تصرعه توقيت الردى
عرفت الأرض كيفية البقاء عن طريق الاقتصاد والاستدامة
فتجنبت الحكمة من إنفاقها ما لديها بشكل جيد حتى المعاد
وتزينت بثوب بهيج يلمع، لا يفارقها طالما دام العالم قائمًا
يا له ثوب مغطى بالورود كل عام يرتديه ولا يزال
أتمنى لو كان لي من البرود ما أروي به إذني من دموعي
للشاعر علي أحمد باكثير
أنت الذي تتفتح كالربيع أمام عيني، وأرى فيك الزهور والجمال
والفل يشرق بضوءه الساطع وعبيره الفواح، والنرجس النعسان والنوارا
والوردَ مخموراً يتمتم: ويحكم هيا اغنموا مُتع الحياةِ قصارا
بين هذه الألوان المتباينة، ينسج ذوق يثير اهتمام الأفكار
تلك المفاتن لا تنتهي أبدًا، وقد يثيرك انتباهها لأنها تتبارى
مثالٌ جميلٌ ورائعٌ، تطوى مرامُها المضمارَ الذي تسابق عليه
كأنها تجمعات شعب رشيد، يحتشد حولها الأنصار
هم يتنافسون، ولكن هدفهم الأسمى هو تحقيق آمال البلاد العظيمة
ماذا عن الجمال والسياسة؟ إنه يضفي إشراقا على الغاية وهو مصباح يهدي الطريق
هو عالم يجعلنا نذوب فيه ونتأمل الأشياء ونستمتع بالأضواء
ارحم قلوب الناس، فإنها تحتمل عذاب الأسوأ وأوزارا ليست تستحقها
تهفو الروح لحسنك، وتتذكرك في كل مرة تراه فيها أو تسمع صوتك
يا لائمَ الأوتار في إرنانها، لا تستعجل، فإن بنانك يضرب الأوتار بشدة
يا طاوي الأقدار، تحت جفونه يضعون ما يثير خوفنا، ولكن لا يؤثر عليهم
عندما رفضت الاستسلام لمشاعرنا العاطفية، تحولت قلوبنا إلى حجارة
شعر أبو تمام
رقت حواشي الدهر فهي تمرمر
وغدا الثرى في حليه يتكسر
نزلت مقدمة المصيف حميدة
ويد الشتاء جديدة لا تكفر
مطر يذوب الصحو منه وبعده
صحو يكاد من الغضارة يمطر
من كل زاهرة ترقرق بالندى
فكأنها عين عليه تحدر
من فاقع غض النبات كأنه
در يشقق قبل ثم يزعفر
أو ساطع في حمرة فكأن ما
يدنو إليه من الهواء معصفر
شعر أحمد شوقي
تِلكَ الطَبيعَةُ قِف بِنا يا ساري
حَتّى أُريكَ بَديعَ صُنعِ الباري
الأَرضُ حَولَكَ وَالسَماءُ اِهتَزَّتا
لِرَوائِعِ الآياتِ وَالآثارِ
مِن كُلِّ ناطِقَةِ الجَلالِ كَأَنَّها
أُمُّ الكِتابِ عَلى لِسانِ القاري
دَلَّت عَلى مَلِكِ المُلوكِ فَلَم تَدَع
لأدِلَّةِ الفُقَهاءِ وَالأَحبارِ
مَن شَكَّ فيهِ فَنَظرَةٌ في صُنعِهِ
تَمحو أَثيمَ الشَكِّ وَالإِنكارِ
شعر ابن الرومي
ضحك الربيع حتى بكى الديم، وأصبحت الأشجار متساوية في الارتفاع
من بين الأشجار الخضراء كالمغمورة بالخضرة، والأزهار غير المزهرة
الأطراف المتلاحقة متسقة فتبدو كأنها طُمّت بالجلم
مُتَبلِّجِ الضَّحواتِ مُشرِقها متأرّجُ الأسحار والعتم
تجد الوحوش فيه كفايتها والطيور عادة تأتي لتأكل منه
فظباؤه تضحى بمنتطَح وحمامُه تَضْحِي بمختصم
الروضُ يوجد في قِطَع الزبرجد والـ ـياقوتُ تحت لآلئٍ تُؤم
قلم يرقرق على ورق هش أو خيول غالية
وأرى البليغ يُصغرُ قصورَ مبلغِه، حتى يهتز أثاثُ الجبال غداً
حسبك الزهراء والزمن الهار وشافيك هما الطبيبان
الربيع يشبه الشباب، والصيف يجعله يشيخ كالهرم
يقول الشاعر: أشقاؤك في نعمان بين ربى نعمان، وأنتِ محاسن النعم
أصبحت الأزهار جميلة ووصفت بسمات الجبروت والعظم
ترف لأعيننا مثلما يراه العابرون ليروا عجائب الحكم
الشعلة تزيد من سطوعك في النهار وتضيء ظلمتك في الليل
أعجب شعلا بفحم لم يشتعل في ذلك الفحم
كأنها لم تكن سوداء بل احمرت منها في ضوء الفجر
تأمل العاشقون في قلب تساقطت منه الدموع وارتفعت
يا للزهور الجميلة، إنها تنعش الأعين في هذا القسم
لا يعد التحف الأخرى جميلة مثلها، إلا أنها تطول بارئ النسم