أبو القاسم الشابي هو شاعر تونسي معاصر، ولد في قرية الشابية بولاية توزر عام 1909. حاز على لقب `شاعر الخضراء`، ورغم صغر سنه كان من أصغر الشعراء في العصر الحديث، إلا أنه كان شاعرا متميزا بشعره الرومانسي والمؤثر، وكان يتمتع بلفظة سهلة قريبة من القلوب. اختار تعابير بلاغية رائعة صاغها في قوالب شعرية مذهلة. أبو القاسم الشابي، هذا الشاعر العظيم، ترك لنا أعمالا ناجحة تعيش حتى الآن، من قصائد وأبيات شعرية في جميع أشكال الشعر. حتى الكثير من المطربين اختاروا بعض أبياته ليغنوها وتصبح بذلك من أشهر أبياته. لذلك، نقدم لكم أفضل قصائد الشاعر أبو القاسم الشابي
قصيدة ارادة الحياة
إذا أراد الشعب يومًا الحياة ، فمن الضروري أن يتجاوب القدر
وَلا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي .. وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر
إذا لم تشعر بشغف الحياة، فستتبخر وتتفتت قبل أن تدرك ذلك
ويل لمن لم تشقه الحياة من صفعة العدم الفائزة
كما حدثتني الكائنات وأخبرتني روحها المخفية
وَدَمدَمَتِ الرِّيحُ بَيْنَ الفِجَاجِ .. وَفَوْقَ الجِبَال وَتَحْتَ الشَّجَر
عندما يطمح الإنسان إلى هدف ما، يستسلم للشوق وينسى التحذير
وَلَمْ أَتَجَنَّبْ وُعُـورَ الشِّعَـابِ .. وَلا كُبَّـةَ اللَّهَـبِ المُسْتَعِـر
من لا يحب صعود الجبال يعيش إلى الأبد في الحفر
أفاض قلبي بدماء الشباب، واهتز صدري برياح أخرى
أنا أطرقُ الباب وأستمعُ إلى صوتِ الرعد، وعزف الرياح، وهمس المطر
وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ – لَمَّا سَأَلْتُ : سئلت: “أيتها الأم، هل تكرهين البشر؟
أُبَارِكُ لأهل الطموح في الناس، وأُشكِرُ من يتلذذ بركوب الخطر
ألعن من لا يتوافق مع الزمن ويكتفي بالعيش كعيش الحجر
الكون حي ويحب الحياة ويحتقر الميت مهما كبرت قدراته
لا يحتضن الأفق جثث الطيور الميتة، ولا يلثم النحل زهورها الميتة
لو لم يكن قلبي الرؤوم حنونًا، لما ضمت الحفرة تلك الميتة
ويلٌ لمن لم تشقه الحياة، من لعنة العدم المنتصر
في إحدى ليالي الخريف، وبينما كانت مثقلةً بالأسى والضجر
سَكِرْتُ بِهَا مِنْ ضِياءِ النُّجُومِ .. وَغَنَّيْتُ لِلْحُزْنِ حَتَّى سَكِـر
سَأَلْتُ الدُّجَى: هل يمكن أن تعيد الحياة إلى ما فارقه ربيع العمر؟
لم تنطق شفاه الظلام بأي كلمة، ولم ترنم عذارى السحر
قال لي الغاب في رقة، الغابة المحببة مثل خفق الوتر
يأتي فصل الشتاء، فصل الضباب، فصل الثلوج، فصل المطر
يختفي السحر، سحر الأغصان، وسحر الزهور، وسحر الثمار
سحر المساء الشجي الوديع، وسحر المروج الشهي العطر
تسقط الأغصان والأوراق، وتذبل زهور عهد حبيب نضر
تتجول الريح بها في كل وادٍ، ويدفنها السيل بسرعة
وَيَفْنَى الجَمِيعُ كَحُلْمٍ بَدِيـعٍ .. تَأَلَّـقَ في مُهْجَـةٍ وَانْدَثَـر
وتبقى البذور التي حملت ذخيرة عمر جميل غابر
ذكريات فصول، ورؤية لحياة، وأشباح دنيا تلاشت زمراً
تحتضن تحت الضباب، وتحت الثلوج، وتحت المطر
وصف للطيف الحياة الذي لا يمل وقلب الربيع الخضر الشذي
وهي حالمة بأصوات الطيور وعبير الزهور وطعم الفواكه
لا يختلف عن خفق الجناح، حتى ينمو شوقها وينتصر
انشقت الأرض من تحته وأظهرت الكون صورًا جميلة
حل الربيع بأنغامه وأحلامه وصباه العطر
وقُبِّلت في الشفاه قبلة تُعيد الشباب الذي غاب
وقالَ لَهَا : ربما تحصل على الحياة وتخلد في نسلك المدخر
تُبارك النور ويُستقبل شباب الحياة ويُخلِّد العُمر
مَن عبد النور أحلامه، يباركه النور بأنه ظهر
ها هو الفضاء، وها هو الضوء، وها هو التراب الحالم المزدهر
أنت الجمال الذي لا يفنى، وأنت الوجود الرحيب النضر
استمتع بالريف كما تشاء فوق الحقول، بثمارها الحلوة وزهورها الجميلة
ناجي النسيم واستدعي الغيوم، واستدعي النجوم والقمر
وأناجي الحياة وأشواقها .. وأفكر في جمال هذا الوجود الجميل
يكشف الظلام عن جمال عميق يثير الخيال وينشط الفكر
ومُدَّ عَلَى الْكَوْنِ سِحْرٌ غَرِيبٌ .. يُصَـرِّفُهُ سَـاحِـرٌ مُقْـتَدِر
انطفأت شموع النجوم الواضحة، وضاعت رائحة البخور الفوَّاح، رائحة الزهور
انتشلت روح غريبة الجمال تطير بأجنحة من ضوء القمر
ويرنُّ نشيد الحياة المقدسة في هيكلٍ حالمٍ قد سُحِر
أعلن الكون بأكمله أن الطموح هو لهيب الحياة وروح الانتصار
إِذَا طَمَحَتْ لِلْحَيَاةِ النُّفُوسُ .. فَلا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَـدَرْ
اراك
اراك, فتحلو لدى الحياة
و يملأ نفسى صباحُ الأمل
و تنمو بصدرى ورود عِذاب
و تحنو على قلبي المشتعل
فأعبُدُ فيك جمال السماء
ورقة ورد الربيع, الخضِل
و طهر الثلوج, و سحر المروج
مُوشحةً بشعاع الطفل
***************
أراك, فتخفق أعصاب قلبي
و تهتزُ مثل اهتزاز الوتر
و يجرى عليها الهوى, فى حُنُوٍ
أنامل,لُدناً, كرطب الزهر
فتخطو أناشيد قلبي,سكرَى
تغردُ, تحت ظلال القمر
و تملأني نشوة, لا تُحَد
كأنى أصبحتُ فوق البشر
أوَدُ بروحى عناق الوجودِ
بما فيه من أنفُسٍ , او شجر
الاشواق التائهة
لم أجد في الوجود سوى شظايا… أبدية ولذة باهتة
وأماني تغرق دموعها الجميلة… ويندثر صداها في زمنه
واناشيد يأكل الهب الدامي…………….مسراتها ويبقي اساها
ورود تموت في قبضة الشوك……..ما هذه الحياة المملة
سأم هذه الحياة معاد………………….وصباح يكر اثر لي
ليتني لم أعد إلى هذه الدنيا…………….ولم تسبح الكواكب حول
يا ليتني لم أعانق فجر أحلامي… ولم يلثم النور جفوني
أتمنى أني لم أظل كما كنت سابقا، مضيئا… مشهورا في الجو بدون قيود
صلوات في هيكل الحب
أنتِ كعذبة الطفولة، وكالأحلام واللحن والصباح الجديد
كالسماء الضاحكة، كالليلة القمراء، كالورد، تبدو كابتسام الوليد
ما أجمل وداعتها وجمالها وشبابها، يا منعم أملود
يا لها من طهارةٍ تبعث التقديس في نفوس الشقي العنيد..
يا لها من رقة، تكاد الوردة تنحني منها على صخرة صلبة
صباح جديد
من وراء الظلام ………وهدير المياه
قد دعاني الصباح……..وربيع الحياة
ياله من دعاء…………هز قلبي صداه
لم يعد لي بقاء……….فوق هذه الاصقاع
الوداع الوداع………ياجبال الهموم
ياضباب الاسي…….يافجاج الجحيم
قد جري زورقي….في الخضم العظيم
ونشرت القلاع……فالوداع الوداع
ضحِكْنا على الماضي البعيدِ، وفي غدٍ
ضحكنا على الماضي البعيد، وستجعلنا الأيام في المستقبل أضحوكة
هذه هي الدنيا، رواية ساحرة، عظيمة، غريبة في فنها، ومبدعى في آياتها
تمثل الأحياء في مسرح الحزن، وفي خضم ضباب الهموم، يتم تمثيل الموتى
ليشاهد من يبتعد عن الضباب فصوله، ويضحك الذي يظهر ما سيأتي
كل شخص يؤدي دوره، فهو يضحك على الآخرين في دوره، ويضحكون عليه في دوره الغبي
نشيد الجبار
سَأعيشُ رَغْمَ الدَّاءِ والأَعْداءِ —– كالنِّسْر فوقَ القِمَّة ِ الشَّمَّاءِ
أتطلع إلى الشمس المشرقة، ساخرا من السحب والأمطار والأحوال الجوية
لا أنظر إلى ظل اليأس، ولا أرى ما في قرار الهوة السوداء
أسيرُ في عالم المشاعر، مستلهمًا بين الحين والآخر، وتلكَ هي سعادة الشعراء
أستمع إلى موسيقى الحياة ورسالتها، وأدمج روح الكون في إنتاجي
أنا أصيح لصوت إلهي يحيي ما كان ميتًا في قلبي
وأقول للقَدَرِ الذي لا يَنْثني —– عن حرب آمالي بكل بلاءِ:
لا يستطيع الموج الأسود أو عواصف الرمل أن يطفئ اللهب الذي يحترق في دمي
«فاهدم قلبي ما استطعت، فإنه سيكون مثل الصخرة الصماء»
لا يعرف الضعفاء والأطفال الشكوى الذليلة والبكاء، وضعفهم يجعلهم يتوسلون
يعيش بطل شجاع يحدق دائمًا بالفجر الجميل النائي
املأ طريقي بالمخاوف والظلام والأشواك والحصى
انثر الرعب عليه واسقط فوقه الرجم والصواعق العنيفة
سأظل أمشي رغم ذلك، وأنا أعزف قيثارتي وأغني بحنجرتي
أسير بروح حالمة متوهجة في ظلام الألم والمرض
يوجد النور في قلبي وبين جوانحي، فلماذا أخشى المشي في الظلام؟
أنا الناي الذي لا تنتهي أنغامه، طالما كان حيا في الأحياء
«وأنا الخِضَمُّ الرحْبُ، ليس تزيدُهُ إلا حياةً سَطْوةُ الأنواءِ»
وإذا خمدت حياتي، وانتهت عمري، وسكتت المنيّةُ عن نائي
وخبا لهيبُ الكون في قلبي الذي عاش مثل الشعلة الحمراء
أنا سعيد بأني تحولت من عالم الخطايا والبغضاء
«أود أن أذوب في فجر الجمال السرمدي وأشرب من مَنْبَعِ الأضواء»
أقول للجمع الذين تجشموا… هدمي وأرادوا سقوط بنائي
رأوَوا الظل الهامد على الأشواك، فتخيلوا أنني قد قضيت حياتي
واستخدموا كل ما وجدوه ليشعلوا النار، ويضعون فوقها أشلائي
يمتدّون أيديهم ليأكلوا “لحمي” ويشربوا “دمائي
أقول لهم بوجه مشرق وعلى شفتي بسمة استهزاء:
المعاوِل لا تهُدّ مناكِبي، والنار لا تأتي على أعضائي
يدعو الشاعر إلى رميالحشائش في النار ويحث الأطفال على اللعب تحت سمائه
عندما تتمرد العواصف وتنتشر الرعب في القبة الزرقاء، سيبقى القلب شجاعًا
«ورأيتموني طائرا، مترنما —– فوق الزوابع، في الفضاء البعيد
يصف الشاعر جدة في القرن الرابع الهجري بأنها مدينة على البحر محصنة عامرة آهلة
في بيوتهم، يتحدثون في العث الزائف ويجمدون الآراء الحية
«وترنموا ما شئتم بشتائمي، وتجاهروا ما شئتم بعدائي»
أما أنا فأجيبكم من فوقِكم —– والشمسُ والشفقُ الجميلُ إزائي:
مَنْ تَمسَّكَ بِالوَحْيِ المُقدَّسِ فإن قلبَهُ —– لن يفرح بحجارة الفلتاء
أَلا إنَّ أَحْلاَمَ الشَّبَابِ ضَئِيلَة ٌ
إن أحلام الشباب ضئيلة وقابلة للتحطم مثل الغصون الهشة التي تتعرض للكوارث
سألتُ الدَّياجي عن أماني شبيبَتي —– فَقَالَتْ: «تَرَامَتْهَا الرِّياحُ الجَوَائِبُ»
وَلَمَّا سَأَلْتُ الرِّيحَ عَنْها أَجَابَنِي —– : “تلقَّفها سَيْلُ القَضا، والنَّوائبُ
أصبحت غيوما ، واختفت كالهباءة على الشاطئ الصاخب ، وأصبحت الأمواج مضطربة
الجنة الضائعة
عدد كبير من الأوقات الجميلة في وادي النضير
فضية الاسحار مذهبة الأصائل والبكور
كانت أرق من الزهور وأحلى من غناء الطيور
ألذ من سحر الصبا هو بسمة الطفل الغرير
قد أفرحت بهم وهم معي بدون مراقبة أو تحذير
إلا الطفولة تلهو مع الحب الصغير حولنا
أيام كانت للحياة حلاوة الروض المطير
وطهارة الموج الجميل، وسحر شاطئه المنير
ووداعة العصفور، بين جداول الماء النمير
أيام لم نعرف فيها في الدنيا سوى مرح السرور
وتتبع النحل الأنيق وقطف تيجان الزهور
وتسلق الجبل المكلل بالصنوبر والصخور
وبناء أكواخ الطفولة تحت أعشاش الطيور
مسقوفة بالورد، والأعشاب، والورق النضير
نبني، فتهدمها الرياح، فلا ننضج ولا ننثر
ونعود نضحك للمروج، وللزنابق، والغدير
نخاطب الأصداء التي تردد صداها في الوادي المضيء
ونعيد أغنية السواقي، وهي تلغو بالخرير
ونظل نركض خلف أسراب الفراش المستطير
نمر بين المروج الخضر، ونشعر بسكر الجوارح
نشدو، ونرقص مثل البلابل للحياة والإنجاز
ونظل ننثر للفضاء الرحب، والنهر الكبير
لا شيء في القلوب سوى الأحلام والغرور الحلو
ونشيد يظهر في الأفق الملون بأمنياتنا الكثيرة
أجمل من الشفق الجميل وأروع من رونق المرج الأخضر
وأكبر من هذا الوجود، وجميع أمجاد الدهور
أبدا تدللها الحياة بكل أنواع السرور
ينبثق من مراح الكون ما يغري الوقور ويسحرهم
فنسير، ننشد الله العلوم في كل الأمور
ونظل نعبث بالجليل من الوجود، وبالحقير:
ـ بالسائل الأعمى وبالمعتوه، والشيخ الكبير
بالقطة البيضاء، بالشاة الوديعة، بالحمير
بالعشب، بالفنن المنور، بالسنابل، بالسفير
بالرمل، بالصخر المحطم، بالجداول، بالغدير
واللهو، والعبث البريء، الحلو، مطمحنا الأخير
وما زلنا نقفز، أو نثرثر، أو نغني، أو ندور
نحن لا نمل من اللهو الجميل، ولا يسيطر علينا الفتور
فكأننا نحيا بأعصاب من المرح المثير
وكأننا نمشي بأقدام مجنحة، تطير
كنا لب هذا الكون في أيام، والباقي قشور
أيام تفرش سبلنا الدنيا بأوراق الزهور
وتمر أيام الحياة بنا، كأسراب الطيور
بيضاء لاعبة، مغردة مجنحة بنور
وترفرف الأفراح فوق رؤوسنا أنّى نسير
****
أين اختفى الفجر القدسي في ظلام الدهور
ومات، تمامًا كما يموت النشيد الجميل في صمت الأثير
يا للأسف، فقد ضاعت عني سعادة القلب الغريرة
وظللتُ أسيرًا في وادي الزمان، وأدأبتُ في المسير فيه
وأدوس أشواك الحياة بقلبيَ الدامي الكبير
وأرى الأباطيل الكثيرة، والمأثم، والشرور
وتصادم الأهواء بالأهواء في كل الأمور
ومذلة الحق الضعيف، وعزة الظلم القدير
أرى الإنسان يسير في رحلة الحياة القصيرة
ما بين أهوال الوجود وأعباء الضمير
متسلقا جبل الحياة الوعر، كالشيخ الضرير
دامي الأكف، ممزق الأقدام، مغبرّ الشعور
مترنح الخطوات ما بين المزالق والصّخور
هالته أشباح الظلام، وراعه صوت القبور
تصدع صوت إعصار الحزن والموت في تلك المنطقة الوعرة
***