هناك العديد من الأمثلة الناجحة في مجال الأدب من قبل النساء، حيث ابرزن في هذا المجال منذ صغرهن، ومن بينهن الشاعرة نازك الملائكة التي ولدت في بغداد في عام 1923م ونشأت في بيت علم وأدب، فوالدتها هي الشاعرة سلمى عبد الرازق ووالدها هو الأديب والباحث صادق الملائكة، واشتهرت بحبها للأدب والشعر. بعد انتهاء دراستها الثانوية، انتقلت إلى دار المعلمين وتخرجت منها في عام 1944 بتفوق. كما درست في الولايات المتحدة الأمريكية وتعلمت اللغة الإنجليزية، بالإضافة إلى إتقانها لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية واللاتينية. حازت على درجة البكالوريوس في التربية من كلية التربية في بغداد، وحصلت على درجة الماجستير في الأدب المقارن من جامعة وسكونس الأمريكية. لديها العديد من القصائد والأشعار التي لا تزال حية حتى يومنا هذا، وسنعرضها في هذا المقال
قصيدة (عاشقة الليل)
يا ظلام الليل، يا من يطوي أحزان القلوب
أُنْظُرِ الآنَ فهذا شَبَحٌ بادي الشُحـــــوبِ
جاء يسعى، كالطيف الغريب، تحت أستارك
حاملاً في كفِّه العــودَ يُغنّــــي للغُيوبِ
لا يشعر بالرضا بالهدوء الليلي في الوادي الكئيب
هي فتاة شهدت الوادي يا ليل، تمشي بثبات
أقبلَ الليلُ عليهــا فأفاقتْ مُقْلتاهـــــا
ومَضتْ تستقبلُ الواديْ بألحــانِ أساهــا
ليتَ آفاقَكَ تــدري ما تُغنّــي شَفَتاهــا
يا ليل، ليتك تعلم ما هي متمنّياتي
جَنَّها الليلُ فأغرتها الدَيَاجــي والسكــونُ
وتَصَبَّاها جمالُ الصَمْــتِ ، والصَمْتُ فُتُونُ
فنَضتْ بُرْدَ نهارٍ لفّ مَسْــراهُ الحنيـــنُ
وسَرَتْ طيفاً حزيناً فإِذا الكــونُ حزيــنُ
فمن العودِ نشيجٌ ومن الليـــلِ أنيـــنُ
إِيهِ يا عاشقةَ الليلِ وواديـــهِ الأَغــنِّ
هوذا الليلُ صَدَى وحيٍ ورؤيـــا مُتَمنٍّ
الدنيا تضحك وأنتِ تعانين من حزنٍ عميق
فخُذي العودَ عن العُشْبِ وضُمّيهِ وغنّــي
وصفي لما يحدث في المساء الجميل من سحر وفن
ما الذي يجذب شاعرة الحيرة للنظر إلى السماء؟
هل هذه أحلام الفتيات أم مجرد خيالات للشعراء؟
هل الحب للغامض أم ليلة البؤس؟
أم تَرَيْنَ أن الآفاقَ تَستَهوِيكِ أم أن سِحْرَ الضياءِ؟
عجباً شاعرةَ الصمْتِ وقيثارَ المســـاء
طيفُكِ الساري شحوبٌ وجلالٌ وغمـوضُ
ما زال يسري تخيلا لفه الليل العريض
فهو يا عاشقةَ الظُلْمة أســـرارٌ تَفيضُ
يا شاعرتي، لن يتم رحمة القلب المهيض
لا تسألي عن البرق، عد ولا تحمل الوميض
عَجَباً ، شاعرةَ الحَيْرةِ ، ما سـرُّ الذُهُولِ ؟
ما الذي جلب لكِ الطيف الحالِم تحت النخيل؟
ضع رأسك على كفيك في الظل الداكن
مُغْرَقاً في الفكر والأحزانِ والصمتِ الطويلِ
مرحبًا بك في الحقل الجميل، بعيدًا عن فتنة الظلام
استمعيا لهذا الصراخ من الرعد، وهذه العواصف
فارجِعي لن تُدْركي سرّاً طوتْهُ الكائنــاتُ
قد جَهِلْناهُ وضنَــتْ بخفايــاهُ الحيــاةُ
العاصف المجنون لا يعرف شيئًا يا فتاة
اشفقي على قلبك، فلن ينطق هذه الظلمات
قصيدة (أنا)
الليلُ يسألُ من أنا
أنا سرُّهُ القلقُ العميقُ الأسودُ
أنا صمتُهُ المتمرِّدُ
قنّعتُ كنهي بالسكونْ
ولفقتُ قلبي بالظنونْ
وبقيتُ ساهمةً هنا
أرنو وتسألني القرونْ
أنا من أكون?
والريحُ تسأل من أنا
أنا روحُها الحيران أنكرني الزمانْ
أنا مثلها في لا مكان
نبقى نسيرُ ولا انتهاءْ
نبقى نمرُّ ولا بقاءْ
فإذا بلغنا المُنْحَنى
خلناهُ خاتمةَ الشقاءْ
فإِذا فضاءْ!
والدهرُ يسألُ من أنا
أنا مثلهُ جبّارةٌ أطوي عُصورْ
وأعودُ أمنحُها النشورْ
أنا أخلقُ الماضي البعيدْ
من فتنةِ الأمل الرغيدْ
وأعودُ أدفنُهُ أنا
لأصوغَ لي أمسًا جديدْ
غَدُهُ جليد
والذاتُ تسألُ من أنا
أنا مثلها حيرَى أحدّقُ في ظلام
لا شيءَ يمنحُني السلامْ
أبقى أسائلُ والجوابْ
سيظَل يحجُبُه سراب
وأظلّ أحسبُهُ دنا
فإذا وصلتُ إليه ذابْ
وخبا وغابْ
أماه وحشرجةٌ ودموع وسواد
وأنبجس الدم وأختلج الجسم المطعون
والشعر المتموج عشش فيه الطين..
أمــــــاه … ولم يسمعها إلا الجلاد
وغداً سيجيئ الفجر وتصحو الأوراد
والعشرين تنادي والأمل المفتون
وتجيب الزهور والفرح رحلتها بغسل العار
ويعود الجلاد الوحشي ويلقى الناس
العار(ويمسح مديته) مزقنا العار
ورجعنا فضلاء بيض السمعة أحرار
يا رب الحانة، أين الخمرة وأين الكأس؟
نادي الغانية الكسلا العاطرة الأنفاس
أفدي عينيها با القران وبلا قدار
املأ كؤوسك، يا جزار، واغسل المذبوحة للعزة
وغداً سيعود الفجر وتسأل عنها الفتيات
وأين تراها (فيرد الوحش) قتلناها
وصمتُ عارٍ في جبهتنا وغسلناها
وستحكي قصتها السوداء الجارات
وسترويها في الحارة حتى النخلات
حتى الأبواب الخشبية لن تنساها
ستهمسها حتى الأحجار
غسلاً للعار غسلاًً للعار
يا جارات الحارة يا فتيات القرية
الخبز سنعجنه بدموع مآقينا
سنقص جدائلنا وسنسلخ إيدينا
لا بسمة لا فرحة لا لفة فا المدية
تراقبنا في قبضة والدنا وأخينا
وغداً من يدري أي قفار ٍ
سيوارينا غسلاً للعار
أخيرا لمست الحياة
وأدركت ما هي أىّ فراغ ثقيل
أخيرا تبيّنت سرّ الفقاقيع واخيبتاه
وأدركت أنى أضعت زمانا طويل
ألمّ الظلال وأخبط في عتمة المستحيل
ألمّ الظلال ولا شىء غير الظلال
ومرّت علىّ الليال
وها أنا أدرك أنى لمست الحياة
وان كنت أصرخ واخيبتاه .
ومرّ علىّ زمان بطيء العبور
دقائقه تتمطّى مللا كأن العصور
هنالك تغفو وتنسى مواكبها أن تدور
زمان شديد السواد ولون النجــوم
يذكرني بعيون الذئاب
وضوء صغير يلوح وراء الغيوم
عرفت به في النهاية لون السراب
ووهم الحياة
فواخيبتاه
هل هذه هي ما يسمى الحياة؟
خطوط نظلّ نخططها فوق وجه المياه؟
وأصداء أغنية فظة لا تمسّ الشفاه؟
وهذا إذن هو سرّ الوجود؟
ليال ممزقة لا تعود؟
وأثار أقدامنا في طريق الزمان الأصم
تمرّ عليها يد العاصفة
فتمسحها دونما عاطفة
وتسلمها للعدم
ونحن ضحــايا هنا
تجوع وتعطش أرواحنا الحائرة
ونحسب أن المنى
ستملأ يوما مشاعرنا العاصرة
ونجهل أنّا ندور
مع الوهم فى حلقات
نجزئ أيامنا الاّفلات
إلى ذكريات
وننتظر الغد خلف العصور
ونجهل أن القبور
تمد الينا بأذرعها الباردة
ونجهل أن الستائر تخفى يدا مارده
عرفت الحياة وضقت بجمع الظلال
وأضجرني أن نجوب التلال
نحدّق في حسرة خلف ركب الليال
تسير بنا القافلة
نجوس الشوارع في وحدة قاتله
إلام يخادعنا المبهم ؟
وكيف النهاية ؟ لا أحد يعلم
سنبقى نسير
وأبقى أنا في ذهولي الغريرّ
ألمّ الظلال كما كنت دون اهتمام
عيون لا لون لها شيء سوى الظلام
شفاه تريد ولا شىء يقترب مما تريد
وأيد تريد احتضان الفضاء المديد
وقلب يريد النجوم
فيصفعه في الدياجير صوت القدوم
يهيل التراب على اّخر الميّتين
وأقصوصة من يراع السنين
تضجّ بسمعى فأصرخ : اّه !
أخيرا عرفت الحياة
فواخيبتاه
تعال لنحلم، فالمساء الجميل قد اقترب
ولين الدجــى وخدود النجوم تنادى بنــــا
تعال، نصطاد الرؤى ونعيد خيوط السنا
ونشهد منحدرات الرّمــــــال على حـبّــــنا
سنمشى معا فوق صدر جزيرتنا الساهدة
ونبقى على الرّمل اثأر أقدامـــنا الشاردة
ويأتي الصـــباح فيلقى بأنــــــــدائه الباردة
وينبت حــيث حلمنا ولــــو وردة واحـــــــــده
سنحلم أنّا صعـــــدنا نرود جبــــــــــال القمــر
ونمرح في عزلة اللانهـــــــاية واللا بشــــــــــر
اذهب بعيدًا، بعيدًا إلى حيث لا يمكن للذكر أن يصل
إلينا الوصــــول فنحن وراء امتداد الفكـــــــــر
سنحلم أنّا استحلنا صبيين فوق التـــــــــــلال
بريئين نركض فوق الصخور ونرعى الجمـــال
نحن لا نمتلك منزلا إلا خيمة الخيال
وحين ننام نمرّغ أجســـامنا في الرّمـــــــــــال
سنحلم بالسير إلى الماضي وليس إلى المستقبل
وصلنا إلى بابل التي تتميز بفجر ندٍ
حبيبين نحمـــــل عهد هوانــــــــا إلى المعبـــد
يباركنا كاهـــــــــــن بابــــــــــلىّ نقــــىّ اليــــد
مأساة الحياة
عبثاً تَحْلُمين شاعرتي ما
من صباحٍ لليلِ هذا الوجود
عبثاً تسألين لن يُكْشف السرُ
ولن تَنْعمي بفكِ القيودِ
في ظلال الصفصافِ قَضَيتِ ساعاتكِ
حَيْرى تُمضُك الأسرارُ
تسألين الظلالَ و الظلُ
لايعلمُ شيــــــئاً….
أبداً تنظرين للأ ُفق المجهول
حَيْرى فهل تجلّى الخفيُّ؟
أبداً تسأليـــــن…
…صمتٌ مُسْتغلِقٌ أبديُّ
فيمَ لا تيأسينَ؟ ما أدركَ الأسرارَ
قلبٌ من قبلُ كي تدركيها
أسفاً يا فتاةُ لن تفهمي الأيامَ
فلتقنعي بأن تجهليها
أُتركي الزورق الكليل تسِّيرْه
أكفُّ الأقدارِ كيف تشاءُ
ما الذي نلتِ من مصارعة الموجِ؟
وهل نامَ عن مناكِ الشقاءُ؟
يا للذين ضاعت حياتهم في الأحلام
ماذا جَنَيْتِ غير الملالِ؟
لم يَزَلْ سرُّها دفينا فيا ضياعهَ
عُمْرٍ قضَّيتِهِ في السؤالِ
هُوَ سرُّ الحياة دقَّ على الأفهامِ
حتى ضاقت به الحكماءُ
فيأسي يا فتاةُ ما فُهمتْ من
قبلُ أسرارُها ففيم الرجاءُ؟
جاء قبل أن تأتي إلى الحياة
ملايينُ ثم زالوا و بادوا
ليتَ شعري ماذا جَنَوْا من لياليهمْ؟
وأينَ الأفراحُ و الأعيادُ؟
ليس منهم إلاَّ قبورٌ حزيناتٌ
أقيمت على ضفاف الحياةِ
رحلوا عن حِمَى الوجودِ ولاذوا
في سكونٍ بعالم الأمواتِ
كم أطافَ الليلُ الكئيب على الجو
وكم أذعنت له الأكوانُ
شهد الليلُ أنّه مثلما كان
فأينَ الذينَ بالأمس كانوا؟
كيف يا دهرُ تنطفي بين كفَّيك
الأماني وتخمد الأحلامُ؟
كيف تَذْوي القلوبُ وهي ضياءٌ
ويعيشُ الظلام ُوهو ظلام