قصة الاصمعي مع الخليفة العباسي
عبر التاريخ، مر الشعر العربي بعدة مراحل وعصور مختلفة من حيث نمط الحياة والعيش، وكان يتلاءم موضوعيا مع كل عصر من تلك العصور، وشهد العصر العباسي تطورا كبيرا في أساليبه وموضوعاته، ونتيجة لانفتاح الدولة العباسية على الحضارات المجاورة، تمهد الطريق للاحتكاك بالثقافات الأخرى، وظهر العديد من الشعراء العباسيين بسبب بساطة الحياة، وكان الأصمعي من بينهم، والذي كان علامة بارزة في الشعر العباسي.
من هو الاصمعي
أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع هو الأصمعي. ويسمى بالأصمعي نسبة إلى جده أصمع. وهو من قبيلة باهلة من قيس. ويعتبر من أعظم الروائيين الثقات في أخبار العرب وأشعارهم. وهو أحد أعظم علماء العرب في اللغة والأخبار والشعر. وتلقى تعليمه من العديد من العلماء، بما في ذلك أبي عمرو بن العلاء الذي كان استاذه في علم التجويد وعلوم الأدب والفصاحة والبيان. ودرس على يده لفترة طويلة، وكان يشعر بالحب للغة، وقام بالسفر والهجرة والتعب في سبيل تعلمها.
استفاد الأصمعي من سكان البادية وحصل على فصاحة اللغة والنطق وبلاغة الكلام، وعاد إلى العرب العتاق الذين يملكون مهارات اللغة وأسرارها وخفاياها. وقد روى عنهم أخبارهم ورواياتهم، وتحدث عنه العلماء وخلفاء الدولة في فترة حياته. وسماه الخليفة هارون الرشيد شيطان الشعر.
قصة الاصمعي مع أبو جعفر المنصور
وجاء في قصة الاصمعي مع الخليفة العباسي ما يلي :
يروى أن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور كان يهتم كثيرا بأموال الدولة. كانت من عادة الخلفاء أن يهبوا الهدايا للشعراء ويسخرون الأموال في سبيلهم. ولكن ابتكر أبو جعفر حيلة لعدم إعطاء الشعراء الأموال. أصدر بيانا يقول إن أي شاعر يأتي بقصيدة مبتكرة سيحصل على وزنها من الذهب. فتسابق الشعراء إلى قصر الخليفة ليقدموا قصائدهم. ولكن المفاجأة الكبرى أنه عندما يدخل الشاعر ليقرأ قصيدته وينتهي منها ، يقول له الخليفة: “هذه القصيدة ليست من بنات أفكارك. لقد سمعتها من قبل.
يندهش الشاعر وينادي الخليفة أحد خدمه ويسأله: هل تعرف قصيدة معينة؟ فيجيب الخادم بنعم ويعيدها عليهم، ثم ينادي الخليفة إحدى الخادمات القريبات ويسألها: هل تعرفين قصيدة معينة؟ فتجيب بنعم وتتلوها لهم، فيصاب الشاعر بالدهشة ويكاد عقله ينفجر، حيث قضى الليل كله في كتابة تلك القصيدة ثم يأتي في الصباح ليجد ثلاثة أشخاص يحفظونها.
تساءل جميع الشعراء عن الحيلة التي كان يستخدمها الخليفة. كان الخليفة أبو جعفر المنصور يحفظ الكلمات بمرة واحدة، وكان لديه غلام يحفظ الكلمات بمرتين، وجارية تحفظ الكلمات بثلاث مرات. عندما يقول الشاعر قصيدته، يحفظها الخليفة ويعيدها إليه. ويكون الغلام وراء الستار يسمع القصيدة مرتين، مرة من الشاعر ومرة من الخليفة، فيحفظها. وبنفس الطريقة، تقف الجارية وراء الستار تسمع القصيدة من الشاعر ثم الخليفة ثم الغلام، فيحفظها.
وبسبب ذلك، اجتمع الشعراء في منتداهم مكتئبين بسبب ما يحدث ولا يعرفون كيف يأتي القصائد التي يسهرون لصياغتها في الليل، ثم يحفظها الخليفة والخادم والخادمة، وأثناء جلوسهم مر عليهم الشاعر وعالم اللغة الأصمعي، فرأى حالتهم وسألهم عن حالتهم، فرووا له قصتهم، فقال لهم إن هناك حيلة في هذا الأمر، وقرر أن يفعل شيئا، فذهب إلى منزله ثم عاد في الصباح إلى قصر الخليفة وهو يرتدي ثياب البدو وطلب إذن للدخول على الخليفة، فدخل.
قال الأصمعي للخليفة: لقد سمعت أنك تدفع ثمنًا من الذهب عندما تشتري شعرًا. فرد الخليفة عليه: هات ما لديك. فقدّم الأصمعي القصيدة التالية:
صَوتُ صفيرِ البُـلبُـــلِ هَيَّجَ قلبي الثَّمِلِ
عند مزج الماء والزهر معًا، ينشأ زهرٌ لحظيٌ جميل
وأنتَ يــا سيِّدَلي وسيِّدي ومَوْلَى لِي
فَكَــــمْ فَكَـــمْ تَيَمُّني غُزَيِّلٌ عَقَيْقَلي
قَطَّفتَهُ مِنْ وَجْنَةٍ مِنْ لَثْمِ وَرْدِ الخَجَلِ
قال “لا” عدة مرات وبسبب ذلك أصبح مجنونًا
والخوذ تلمح إلى فعل هذا الرجل العظيم
فَـوَلْوَلــــــَتْ وَوَلـــْوَلَتْ وَلي وَلي ياوَيْلَلي
فَقُلـــتُ لا تُـــــــوَلْوِلي وبَيِّني اللُؤْلُؤَ لي
قالتْ لَــــــهُ حينَ كذا انهَضْ وجِدْ بالنُّقَلي
وَفِتْيَةٍ سَقَــــــــــوْنَني قَهْوَةً كَالعَسَلَ لِي
شَمَمْتُهـــــــــا بِأَنَفي أَزْكى مِنَ القَرَنْفُلِ
يتميز وسط البساتين بالزهور والفرح
والعُودُ دَنْدَنْ دَنَــا لي والطَّبْلُ طَبْطَبْ طَبَ لي
طَبْ طَبِطَبْ طَبْ طَبِطَبْ طَبْ طَبِطَبْ طَبْطَبَ لي
والسَّقْفُ سَق ْسَقْ سَقَ لي والرَّقْصُ قَدْ طابَ لي
شَوى شَوى وشاهِشُ على وَرَقْ سِفَرجَلي
وغَرَدَ القِمْرِ يَصيحُ مَلَلٍ في مَلَلِ
وَلَوْ تَراني راكِباً على حِمارٍ أهْزَلِ
يَمْشي على ثلاثَةٍ كَمَشْيَةِ العَرَنجِلِ
والناسْ تَرْجِمْ جَمَلي في السُوقْ بالقُلْقُلَلِ
والكُلُّ كَعْكَعْ كَعِكَعْ خَلْفي وَمِنْ حُوَيْلَلي
لكِنْ مَشَيتُ هارِباً مِن خَشْيَةِ العَقَنْقِلي
إلى لِقاءِ مَلِكٍ مُعَظَّمٍ مُبَجَّلٍ
يَأْمُرُني بِخَلْعَةٍ حَمراءْ كالدَّم ْدَمَلي
أَجُرُّ فيها ماشِياً مُبَغْدِداً للذِّيَلِ
أنا الأديب الألمعي من حي أرض الموصل
نَظِمْتُ قِطْعاً زُخْرِفَت ْيَعْجزُ عَنْها الأدْمُلِ
أَقُولُ في مَطْلَعِها صَوْتُ صَفيرِ البُلْبُلِ
زادت تعجب الخليفة حيث لم يتمكن من حفظ الكلمة لأنها تحتوي على أحرف مكررة، وقال إنه لم يسمع بها من قبل. طلب من الغلام حضورها ولم يتمكن من حفظها، وعندما حضرت الجارية، قالت إنها لم تسمع بها من قبل.
فطلب الخليفة من الأصمعي إحضار اللوحة التي كتب عليها قصيدته ليزنها ويمنحه ثمنها من الذهب، فأجاب الأصمعي بأنه ورث لوحًا من الرخام عن أبيه لا يمكن حمله إلا بأربعة من جنوده، فأمر الخليفة بجلب اللوحة ووزنها، وبعد ذلك أخذ الأصمعي ما يعادل وزن اللوحة من مال الخزينة، وعندما أراد الرحيل قال الوزير: “احتجزه يا أمير المؤمنين، فهو الأصمعي بالضبط.
فقال الخليفة : يا أعرابي، اكشف لثامك عن وجهك”، ففعل الأعرابي ذلك، فإذا هو الأصمعي. ثم قال الأصمعي: “أتعامل معك في هذا الأمر؟ إعد المال إلى الخزنة”. فرد الأعرابي: “سأعيد المال شرط أن يعاد مكافأة الشعراء لهم.
فقال الخليفة: نعم، أعاد الأصمعي المال وأعاد الخليفة المكافآت.