وضعية ادماجية عن الزهد في العصر العباسي
كان العصر العباسي ممتلئا بالنشاطات العلمية والفكرية؛ حيث انتشرت حركة الترجمة في مختلف المجالات، وبالتالي انتشرت العلوم المختلفة والفلسفة. كما ازدهرت الحركة الأدبية بشدة في هذا العصر، مما أدى إلى حدوث نهضة فكرية وثقافية كبيرة في العلوم والأدب. وعلى الرغم من هذا التقدم الذي امتاز به هذا العصر، ظهرت بعض التيارات التي تدعو إلى اللهو والمجون والابتعاد عن الدين والحقيقة. ومن هنا بدأت تظهر التيارات المعارضة، ومنها شعر الزهد في العصر العباسي.
الزهد في العصر العباسي
تشير كلمة الزهد في المعنى اللغوي إلى عدم الرغبة في الشيء، وتعرف أيضا بأنها الرغبة في معرفة الخالق والتقرب منه. يتجاهل الإنسان الزهد في امتلاك الأمور الدنيوية تماما، سعيا للحصول على الأمور الروحية ونعيم الحياة الآخرة الأبدي. ظهرت فكرة الزهد كرد فعل على انتشار اللهو والتجاوز في عهد الدولة العباسية، حيث انتشرت جلسات الخمر والغناء في تلك الفترة. وكان الشعراء يحاربون هذا التيار من خلال قصائدهم التي تدعو إلى التوبة والعودة إلى الله.
خصائص شعر الزهد في العصر العباسي
لقد تميز شعر الزهد العباسي بالعديد من الخصائص ومنها :
الشعر الزهدي يتميز بالأسلوب البسيط والبعيد عن التعقيد، حيث يتجنب الشعراء الإسهاب والتعقيد، وهذا ما يجعله يتميز بالسهولة والبساطة في الصياغة
قام شعراء الزهد بكسر الأوزان الشعرية التقليدية وقواعد العروض، وذلك من خلال ابتكار أوزان جديدة، ويجب الإشارة إلى أن أبا العتاهية كان من بين أولئك الشعراء الذين كسروا قواعد القافية التقليدية
يتميز شعر الزهد بتكرار أسلوب الخطابة الوعظية، وذلك لتنبيه المستمعين أو إبعادهم عن الملل
يستخدم شعراء الزهد بشكل أكبر أساليب الإنشاء مثل التعجب والاستفهام والنداء والأمر والنهي، وذلك لأن هذه الأساليب تتميز بقدرتها على إثارة الاهتمام والتشويق
نجح شعراء الزهد في توظيف الحكمة والطابع الفلسفي في الشعر الذي يتعلق بأمور الحياة الدنيا وأحوال الناس والأخلاق.
نماذج من شعر الزهد العباسي والهدف منها
لقد اشتهر العديد من شعراء العصر العباسي بهذا اللون الشعري ، وكان على رأسهم أبو العتاهية ، ومنهم أيضًا علي بن إسماعيل القرشي وأبو إسحاق الإلبيري ، ومن الجدير بالذكر أن الهدف وراء شعر الزهد هو عدم التعلق بالحياة الدنيا لأنها فانية والسعي الدائم إلى التأمل والتفكر في الدار الآخرة ، ومما قاله أبو العتاهية في أحد أشعاره ليدعو إلى العبادة والزهد في الحياة :
رَغيفُ خُبزٍ يَابِسٍ
تَأكُلُهُ فِي زَاوِيَهْ
وَكُوزُ مَاءٍ بَارِدٍ
تَشْرَبُهُ مِنْ صَافِيَهْ
وَغُرفَةٌ ضَيِّقَةٌ
نَفْسُكَ فِيهَا خَالِيَهْ
أَوْ مَسجِدٌ بِمَعزِلٍ
عَنِ الوَرَى فِي نَاحِيَهْ
تَقرَأُ فِيهِ مُصحَفاً
مُستَنِداً لُِسَارِيَهْ
مُعتَبِراً بِمَنْ مَضَى
مِنَ القُرُونِ الخَالِيَهْ
خَيْرٌ مِنَ السَّاعَاتِ فِي
فَيْءِ القُصُورِ العَالِيَهْ
تَعقُبُهَا عُقُوبَةٌ تَصْلَى
بِنَارٍ حَامِيَهْ
فَهَذِهِ وَصِيَّتِي
مُخْبِرَةٌ بِحَالِيَهْ
طُوبَى لِـمَنْ يَسمَعُهَا
تِلكَ لَعَمْرِي كَافِيَهْ
فَاسْمَعْ لِنُصْحِ مُشْفِقٍ
يُدعَى أبَا العَتَاهِيَهْ
يذكر أحمد الفراهيدي في إحدى قصائده الناس بأن الموت لا مفر منه، حيث يقول:
كُن كيفما تشاء، فموتك هو قصرك، ولا مزاحل عنه ولا فوت
بَيْنا غِنَى بيتٍ وبَهْجَتِهِ .. زالَ الغِنَى وتَقَوَّضَ البيتُ
سعى الشعراء بكل جهدهم لمحاربة اللهو الذي شغل بعض الناس عن العبادة والإيمان، وأصبح دور هذا النوع من الشعر بارزًا ومهمًا جدًا في العصر العباسي، حيث كان دعوة صريحة وواضحة للإيمان والتوبة خوفًا من عقاب الله.