احكام اسلاميةاسلاميات

كيف يكون الايمان بالقضاء والقدر

قبل الحديث عن أهمية الإيمان بالقضاء والقدر، لابد من معرفة معنى كلا من القضاء والقدر. فمعنى القدر لغة هو الحكم والقضاء ومبلغ الشيء، ومعنى التقدير هو التفكر والتروية في تسوية الأمور. أما معنى القدر اصطلاحا فهو كل ما جرى به القلم وسبق العلم به، مما هو كائن إلى الأبد، وأنه قدر ما يكون من الأشياء ومقادير الخلائق.

الإيمان بالقدر

قال تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، وقال تعالى: ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ [الأحزاب: 38]، وقال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [التغابن: 11].

وعن طاوس قال: أدرك بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: “كل شيء بقدر”، وعندما سمعت عبد الله بن عمر هذا القول، قال: “كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس، أو الكيس والعجز.

وسئل الإمام أحمد عن القدر فقال: (القدر قدرة الله) واستحسن هذا الكلام من الإمام أحمد؛ مما يدل على تبحره وفقهه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (من لم يقل بقول السلف، فإنه لا يثبت لله قدرةً، ولا يثبته قادرًا؛ فالجهميةُ ومن اتبعهم، والمعتزلة المجبرة والنافية، حقيقة قولهم: أنه ليس قادرًا، وليس له الملك..

قلت: قال الإمام أحمد بن حنبل، وهو يستشهد بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن القدر هو قدرة الله، وأن من كذب على القدر فقد جحد قدرة الله.

الفرق بين القضاء والقدر

قدفرق العلماء بين القضاء والقدر بفرقان

الأول: القدر هو وقوع الخلق وفقًا للأمر السابق المقضي، أما القضاء فهو العلم السابق الذي حُكم به في الأزل .

أما الفرق الثاني: القضاء هو الخلق والإيجاد والقدر هو الحكم السابق، وهو عكس الأول .

يعتقد بعض الناس أن القدر هو اسم لما يحدث بشكل مقدر، والقضاء هو العثور عليه.

قال الخطابي رحمه الله: (القدر هو اسم ما يتم تحديده من قبل القادر على الفعل).

قال ابن بطال رحمه الله: (القضاء هو المقضي).

وأما القضاء فهو الخلق؛ كما قال تعالى: كما جاء في الآية: `فقضاهن سبع سماوات` [فصلت: 12]، وقوله تعالى: `وإذا قضىٰ أمرا فإنما يقول له كن فيكون` [البقرة: 117].

أركان الإيمان بالقدر

هناك أربع مراتب أو أربع أركان الإيمان بالقدر :

(1) الإيمان بعلم الله السابق.

(2) الإيمان بكتابة الله قبل كونها.

(3) الإيمان بمشيئة الله النافذة.

(4) الإيمان بأن الله تعالى هو خالق كل شيء.

شرح أركان الإيمان بالقدر

الإيمان بعلم الله السابق

يعلم الله سبحانه وتعالى بعباده ويعرف أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم، ويعلم من منهم سيكون من أهل الجنة ومن سيكون من أهل النار قبل خلقهم. يقول الله تعالى: `لكي تعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما` [الطلاق: 12]. وقد قال: `إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى` [النجم: 30]. وقد قال أيضا: `هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم` [النجم: 32].

قرر الله سبحانه وتعالى، بعلمه، للكافرين إذا عادوا إلى الدنيا، كيف سيكون حالهم، وذلك وفقاً لقوله تعالى: `وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ` [الأنعام: 28].

وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل الرسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فأجاب: ((الله أعلم بما كانوا يعملون).

وقال تعالى: هل رأيتَ من اتخذ إلهَه هواه، وأضلَّه اللهُ على علمٍ؟.” (من سورة الجاثية الآية 23).

قال ابن عباس رضي الله عنهما: علم ما يكون قبل أن يخلقه.

قال ابن الجوزي رحمه الله: على علمه السابق فيه أنه لا يهتدي.

قال ابن القيم رحمه الله: أضله الله عالما به وبأقواله وما يناسبه ويليق به، ولا يصلح له غيره قبل خلقه وبعده. إنه قادر على الضلالة ولا يستحق أن يهدى. فإذا هداه الله، فإنه سيضع الهدى في مكان غير مناسب وأمام من لا يستحقه. فإن الله سبحانه حكيم ويضع الأشياء في مكانها المناسب. تتناسب هذه الآية مع فكرة إثبات القدر والحكمة التي تتطلب وجود الضلالة. وتذكر الآية العلم لأنه يكشف حقائق الأمور ويضع الأشياء في مواضعها المناسبة ويعطي الخير لمن يستحقه ويمنعه عن من لا يستحقه. وبدون العلم، هذا غير ممكن. لذلك، فإن الله سبحانه أضله بناء على علمه بحالته التي تتناسب مع الضلالة وتستدعيها، ويكرر ذلك في ذكره أنه أضل الكافرين، كما قال تعالى: “فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون” [الأنعام: 125].

قبل أن يخلق الله سبحانه وتعالى عباده، كان يعلم بحالهم وما يتجهون إليه وما يعملون. ثم أخرجهم إلى هذا المكان ليظهر علمه الذي علمه فيهم بالأحوال والأفعال التي سيقومون بها. وابتلاهم بالأمور والنهي والخير والشر بناء على معرفته السابقة بهم، فحسب ما فعلوا من الصفات والأفعال المتوافقة مع علمه السابق، فإنهم يستحقون الثواب والعقاب والمديح واللوم. ولولا أنهم يستحقون ذلك بناء على معرفته السابقة بهم، لم يكن ليعاقبهم عليها. ولذلك أنزل الله كتبه وأرسل رسله وأقام شرائعه، لكي تكون حجة واعتذارا لهم، حتى لا يقولوا: كيف يعاقبونا على معرفتك بأفعالنا وحالنا، وهذا لا يعد من اختيارنا وقدرتنا؟! فعندما ظهرت معرفته السابقة بهم من خلال أفعالهم، جعل العقاب يكون على حسب ما ظهر من الاختبار والابتلاء. وابتلاهم بما يجذبهم في الدنيا من زينة وشهوات، كما ابتلاهم بأمره ونهيه. فهذا ابتلاء بتشريعاته وأوامره، وذاك ابتلاء بقضائه وقدره. قال الله تعالى: “إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا” [الكهف: 7]، وقال تعالى: “ونبلوكم بالشر والخير فتنة” [الأنبياء: 35]، وقال تعالى: “وجعلنا بعضكم لبعض فتنة” [الفرقان: 20]”[7].

الإيمان بكتابة الله للمقادير

قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105].

الزبور هو الكتاب الذي أنزل على سيدنا داوود، والذكر هو اللوح المحفوظ وهو أم الكتاب .

(أ) قال تعالى: يشير هذا الآية إلى أم الكتاب أو اللوح المحفوظ الذي يحتوي على كتابة الله لكل شيء، بما في ذلك كتابة الأعمال قبل القيام بها، ويتضمن ذلك الإحاطة بعددها وحفظها، والإحصاء عليها.

(ب) هناك خمسة أعمال مدرجة لكتابة المقادير

الأول: هو تقدير أزلي سابق وتم كتابته قبل خلق السماوات والأرض، ويوجد دليل على ذلك من الآيات. في الحديث، صلى الله عليه وسلم قال: ((أول ما خلق الله هو القلم، وأمره أن يكتب، فسأل القلم: ماذا أكتب؟ فأجابه: اكتب ما سيحدث إلى يوم القيامة) .

وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: `كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام، وكان عرشه على الماء.

الثاني: في الوقت الذي تم أخذ الميثاق فيه: قال الله تعالى: `وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم`، قالوا: `بلى، شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون`، وكذلك نفصل الآيات، ولعلهم يرجعون.” [الأعراف: 172 – 174].

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحُمَمُ، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كتفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي) .

قال القرطبي معنى الحمم هو الفحم

قال الطحاوي رحمه الله: (وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملَك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلَّم الحرمان، ودرجة الطغيان؛ فالحذر كل الحذر من ذلك؛ نظرًا وفكرًا ووسوسة؛ فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه؛ كما قال تعالى في كتابه: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]، فمن سأل: لم فعل؟ رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين ) .

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: هل يعرف أهل الجنة من أهل النار؟ فأجاب: نعم، قيل: فماذا يعمل العاملون؟ فقال: يسهل الله عليهم ما خلق لهم .

الثالث: التقدير العمري: وهو تقدير أعمال العباد وأرزاقهم وأعمالهم وآجالهم وسعادتهم وشقوتهم ، منذ أن كانوا في بطون أمهاتهم؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقه مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكَتْبِ رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)).

الرابع: التقدير الحولي السنوي: وذلك في ليلة القدر: قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ [الدخان: 3 – 5].

قال الحسن البصري رحمه الله: الله الذي لا إله إلا هو، هذا الحديث يتحدث عن ليلة القدر في شهر رمضان حيث يحدث فيها كل شيء بأمر الله تعالى، ويقضى فيها الأجل والعمل والرزق بأسلوب حكيم.

وقال ابن عباس رحمه الله: يكتب في ليلة القدر ما سيحدث في السنة من موت وحياة ورزق ومطر، حتى يشمل الحجاج، ويقال: يحج فلان، ويحج فلان .

الخامس: التقدير اليومي هو عملية تحديد المقادير وتحديد أوقاتها التي تم تحديدها سابقًا؛ كما قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29].

ومعنى الآية: يمكن لله تعالى أن يخلق الأرزاق، ويحيي ويميت، ويعزي ويذل قومًا، ويشفي المرضى ويفرج عن المكروبين، ويمنح السائلين ويستجيب للداعين، ويغفر الذنوب، بلا حصر في خلقه وأفعاله

الإيمان بمشيئة الله النافذة

فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 29]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، وقال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 40].

قال الطحاوي رحمه الله: (وكل شيء يجري بتقديره، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم؛ فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلًا، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلًا، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله، وهو متعالٍ عن الأضداد والأنداد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحُكمه، ولا غالب لأمره، آمنَّا بذلك كله، وأيقنا أن كلًّا من عنده )

ومتعال عن الأضداد تعني :  بالمخالفين، يقصد أنه لا يوجد معارضة لإرادة الله سبحانه وتعالى، وإنما كل ما يحدث هو بمشيئته.

القدرية هم الذين ينكرون مشيئة الله، وبالتالي ينكرون مشيئة رب العباد، ويؤمنون بمشيئة العباد، ويتبعون بدعتهم الجبرية حيث يجعلون العبد مجبرًا على أقواله وأفعاله دون أدنى حرية الاختيار.

يعتقد أهل السنة أن مشيئة الله تعالى هي السائدة وأن العباد لديهم القدرة على أداء أعمالهم

ولهم مشيئة، والله خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم، وهو الذي منحهم إياها، وأقدرهم عليها، وجعلها قائمة بهم، مضافة إليهم حقيقة، وعلى ذلك كلفوا، وعليه يثابون ويعاقبون، ولم يكلفهم الله إلا وسعهم، ولم يحمِّلْهم إلا طاقتهم: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الإنسان: 30].

الإيمان بأن الله خالق كل شيء

قال تعالى: الله هو خالق كل شيء، وقال تعالى: “وأنههو الذي يجعل الناس يبكون ويضحكون”، والضحك والبكاء هما فعلان اختياريان لله سبحانه، فهو المضحك الذي يفرح قلوب عباده، والمبكي الذي يجعلهم يبكون ويشعرون بالحزن والألم.

وقد تم الاتفاق على ذلك في جميع الكتب السماوية وفي العقول والفِطَر  والاعتبار، ولم يخالف في ذلك إلا القدرية مجوس هذه الأمة؛ حيث أخرجوا طاعات الملائكة والرسل  والأنبياء والمؤمنين عن ربوبيته ومشيئته، وجعلوهم هم الخالقين لها، وأنها ليست مشيئته بل مشيئتهم ، وبقدرتهم لا بقدرته؛ تعالى الله عما يقولونه علوًّا كبيرًا!

قال تعالى: وقال الله تعالى: “وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ” [الصافات: 96]، وقال أيضًا: “وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ” [القمر: 52].

قال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله: (فكما لم يُوجِدِ العبادُ أنفسَهم لم يُوجِدوا أفعالهم؛ فقدرتهم وإرادتهم ومشيئتهم وأفعالهم تَبَعٌ لقدرة الله سبحانه وإرادته ومشيئته وأفعاله؛ إذ هو تعالى خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم وأفعالهم، وليس مشيئتهم وإرادتهم وقدرتهم وأفعالهم هي عين مشيئة الله تعالى وإرادته وقدرته وفعله… فالله تعالى هادٍ حقيقةً، والعبد مهتدٍ حقيقة؛ ولهذا أضاف تعالى كلًّا من الفعلين إلى من قام به، فقال: ﴿ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ﴾ [الإسراء: 97]؛ فإضافة الهداية إليه تعالى حقيقة، وإضافة الاهتداء إلى العبد حقيقة… وكذلك يضل الله تعالى من يشاء حقيقة، وذلك العبد يكون ضالًّا حقيقة، وهو سبحانه خالق المؤمن وإيمانه، والكافر وكفره؛ كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ﴾ [التغابن: 2]؛ أي: هو الخالق لكم على هذه الصفة، وأراد منكم ذلك كونًا لا شرعًا؛ فلا بد من وجود مؤمن وكافر، وهو البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال).

الأمر الكوني والأمر الشرعي

قال تعالى: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، وينقسم أمر الله إلى قسمين: أمر كوني، وأمر شرعي.

الأمر الكوني هو أمر قدري متعلق بمشيئة الله تعالى فيما يتعلق بما يحبه ويكرهه، فهو الخالق للملائكة الذين يحبهم، والخالق لإبليس الذي يكرهه، وبالتالي فإن مشيئته سبحانه وتعالى تتعلق بما يحب ويُبغِض.

أما الأمر الشرعي فهو الأمر المتعلق بأوامر الله تعالى التي يأمر بها عباده، وكلها محبوبة إلى الله تعالى، حيث قال تعالى: `إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ` [الزمر: 7].

يؤدي توافق إيمان المؤمن مع الأمر الشرعي والأمر الكوني، وتوافق الكافر مع الأمر الكوني الذي هو مشيئة الله وعدم توافقه مع الأمر الشرعي الذي يحبه الله، إلى نتائج مختلفة.

تنقسم إرادة الله تعالى إلى إرادة كونية وهي مشيئته، وإلى إرادة شرعية وهي محبته

الإيمان بالقدر لا يتطلب ترك العمل والاعتماد، بل يتطلب الجد والاجتهاد.

توافقت جميع الكتب السماوية والسنن النبوية على أن الإيمان بالقدر السابق لا يعني التخلي عن العمل والاجتهاد، بل يشجع على الحرص على العمل الصالح والجد فيه، ولهذا عندما حدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن مقدار وجريان القدر، وسئل عما إذا كان ينبغي الاعتماد على القدر فقط وترك العمل، أجاب قائلا: “لا، اعملوا، فإن كل شيء يسير”، ثم قرأ الآية: “فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى” (سورة الليل: ٥-١٠) .

يعتقد المؤمنون بأن الله تعالى هو الذي يقدر المصائر ويوفر الأسباب، وأنه حكيم فيما ينصبه من أسباب في الدنيا والآخرة، وأنه ييسر لخلقه الأمور التي خلقهم من أجلها، وعليه فإذا علم الإنسان أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها، فإنه يبذل جهده الكامل لتحقيق هذه المصالح، وهذا أفضل من بذل جهده في تحقيق مصالح دنيوية، مثلما يعتبر الزواج سببا لإنجاب الأولاد، والزراعة سببا لنمو النباتات، وكذلك الأعمال الصالحة سببا لدخول الجنة، والأعمال السيئة سببا لدخول النار.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ينصح بالحرص على ما ينفع، والاستعانة بالله، وتجنب الإحباط، وعدم القول: لو فعلت هذا، لكان حدث ذلك، بل يجب القول: قدر الله وما شاء فعل.

معنى قوله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب. [الرعد: 39].

ويمكن لهذا الفهم أن يجيب على العديد من الأسئلة والإشكاليات التي يواجهها الناس، مثل مشكلة زيادة الرزق أو العمر

المذكورة في الحديث الصحيح: ((من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)).

صرّح شيخ الإسلام ابن تيمية في إجابته عن هذه الأسئلة بأن الأرزاق والأعمار تنقسم إلى نوعين:

(هناك نوع معين تم تدوينه بواسطة القلم وكتب في أم الكتاب، وهذا النوع لا يتغير ولا يتبدل، ونوع آخر أعلم الله به ملائكته، وهذا هو الذي يتزايد ويتناقص؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ﴾ [الرعد: 39]، وأم الكتاب هي اللوح المحفوظ الذي قدر الله عليه الأمور على حالتها الحالية، ففي كتب الملائكة يتزايد عمر الإنسان ويتناقص، وكذلك الرزق يتوافق وفقا للأسباب؛ فإن الملائكة تكتب له رزقا ومدة، فإذا كان له صلة قرابة يتزايد رزقه ومدته، وإلا فإنه يتناقص منهما).

فوائد الإيمان بالقدر

التوكل على الله تعالى عند استخدام الأسباب، وتجنب الاعتماد عليها، لأن كل شيء يحدث بقدرة الله.

إيمانًا بالقدر، يجعل العبد لا يتعجب من نفسه عندما يحصل على مراده، حيث يعتقد أن الله تعالى هو الذي يحدد الأسباب والقدر المناسب له، وبالتالي فإن الفضل والمنة يعودان لله.

يجب الاهتمام بالراحة النفسية والطمأنينة بما يحدث من أقدار الله تعالى، وعدم القلق إذا حدث مكروه أو ضياع محبوب لأن ذلك بقدر الله تعالى، وهو ما لا يمكن تغييره.

يساعد الإيمان بالقدر على تخفيف مصاب العبد، حيث يعلم أن كل شيء يحدث بقدرة الله تعالى، والتسليم له والرضا به هو ما يتوجب على كل شخص عاقل.

يعتبر الإيمان بالقدر وسيلة للنجاة من الشرك؛ لأن من يؤمن بالقدر يقر بأن كل ما في هذا الكون منبعث من إله واحد، ومن ينكر هذا الإيمان يجعل غير الله آلهة وأرباباً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى