شرح حديث رفع الأمانة
قال البخاري: أخبرنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، أخبرنا الأعمش، عن زيد بن وهب، أخبرنا حذيفة قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر. قال: `إن الأمانة نزلت في جذور قلوب الرجال ثم نزل القرآن، فتعلموا من القرآن ثم علموا من السنة.` وأخبرنا عن رفعها قال: `ينام الرجل نومة فيأخذ الأمانة من قلبه، فيبقى أثرها كأثر الوكت، ثم ينام نومة أخرى فيأخذ الأمانة، فيبقى أثرها كأثر المجل، كجمرة دحرجتها على رجلك فينفط، فيظهر متورما لا يحتوي شيئا في الداخل. فيصبح الناس يتبادلون البيع ولا يجد أحد يؤدي الأمانة. فيقال: `إن في بني فلان رجلا أمينا.` ويقال للرجل: `ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة خردل من الإيمان.` ولقد حل علي زمان ولست أبالي من أي منكم بايعت، فإن كان مسلما أعيده على الإسلام، وإن كان نصرانيا أو يهوديا أعيده على من آتاه البيعة. أما اليوم، فلم يبايعني إلا فلان وفلان.” [رواه مسلم]
معاني مفردات الحديث:
– الوكت: بفتح الواو وسكون الكاف السواد اليسير.
– المجل: عند فتح اليد، يظهر فيها آثار عمل الفأس وما شابهه من انتفاخات جلدية تحتوي على قليل من الماء، وذلك بفتح الميم وترك الجيم ساكنًا.
– نفط: يشير المجل إلى الرجل العضو، ويستخدم هذا المصطلح في التذكير به.
– منتبرا: مرتفعا مأخوذ من المنبر لارتفاعه.
– بايعت: من المبايعة وهو عقد البيع والشراء.
شرح الحديث:
يقول فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمة الله عليه في شرح الحديث: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الثاني أن هذه الأمانة ستنزع من قلوب الرجال، والعياذ بالله، حتى يتحدث الناس بأن بني فلان ليس فيهم رجل أمين، وهذا يعني أنه من الصعب أن تجد رجلاً واحدًا في القبيلة أو المجتمع يؤدي الأمانة، وأن الكثيرين يخونون ولا يؤدون الأمانة.
شاهد الناس في الوقت الحالي تحقيق هذا الحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا نظرت حولك، ستجد رجلاً بعد رجل يصل عددهم إلى المئات، ولكن لا يمكن العثور على رجل أمين يؤدي الأمانة بالطريقة التي يجب أن يفعل في حق الله وحق الناس.
من الممكن أن تجد شخصا أمينا في حق الله، ويؤدي الصلاة، ويؤدي الزكاة، ويصوم، ويحج، ويذكر الله كثيرا، ويسبح، ولكنه غير أمين في المال. فإذا وكل إليه عمل حكومي، يفرط فيه ويصبح غير ملتزم بالحضور في الوقت المحدد، ويغادر قبل انتهاء الوقت، ويضيع الأيام الكثيرة في أعمال شخصية، ولا يهتم. على الرغم من أنه يتصدر الناس في المساجد والصدقات والصيام والحج، إلا أنه ليس أمينا من جهة أخرى.
بنفس الطريقة، يمكن للرجل أن يكون أمينا في عبادة الله، حيث يؤدي الصلاة ويدفع الزكاة ويصوم ويحج ويتصدق. ولكنه ليس أمينا في وظيفته، حيث يعرف أنه غير مسموح للموظف أن يتاجر أو يفتح محل تجاري، ولكنه لا يهتم بذلك ويفتح محل تجاري يحمل اسما مستعارا أو يستخدم شخصا آخر لتشغيله. وهو يكذب ويخون الدولة ويستغل المال بشكل غير مشروع، وهذا المال الذي يحصل عليه من الأرباح الحرام يمنعه من الاستجابة لدعوة الله، ونعوذ بالله من ذلك.
قال النبي عليه الصلاة والسلام : «إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً»، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، ثم ذكر «الرجل يطيل السفر، اشعث أغبر يمدُ يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام، وغُذي بالحرام ،فإني يستجاب لذلك».
يقول النبي صل الله عليه وسلم : على الرغم من أنه يطلب ذلك، فإن الله لن يستجيب لهذا الرجل، الذي يظهر بمظهر مهمل وقذر، ويرفع يديه نحو السماء، يا رب، يا رب، ومع ذلك، يبتعد الله عن استجابته، لأنه يأكل ما حرم عليه. هذا الشخص الذي يكون موظفا وفقا لعقد الوظيفة، فهو ممنوع من ممارسة التجارة، ومع ذلك يتاجر، فكل مكسب يحصل عليه من هذه التجارة يعتبر حراما عليه. هذا أمر غير قانوني ونستعاذ بالله منه، وهو لا يهتم. نقول لشخص مثل هذا: لديك الخيار الآن؛ إذا أردت البقاء في الوظيفة، فاترك التجارة، وإذا رأيت أن التجارة هي الأنسب والأكثر فائدة بالنسبة لك، فاترك الوظيفة.
هناك اتفاق بينك وبين الدولة بأن هناك امتناع عن مزاولة التجارة، ولكن لا يتوافق ذلك مع تجارتك
قال الله تعالى : {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } [المائدة:1]، {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الاسراء:34]، يتعلل بعض الناس فيقول: كيف تمنعوني من التجارة وهناك وزراء يتاجرون بالأراضي وعندهم شركات كبيرة، فنقول : إذا ضلّ الناس لم يكن ضلالهم هدى، وإذا كانوا هم ضالين ظالمين بما صنعوا فلا تضل أنت، فإذا قال مثلاً: هذه النظم جاءت من تحت أيديهم، هم الذين شرعوها فكيف يخالفونها؟ نقول : حسابهم على الله ، سيكونون هم أول من يحزن ويتحسر على ما صنع يوم القيامة، حيث لا مال عندهم يفدون به أنفسهم ، ولا خدم ولا حراس يحجزون عنهم، ولا نسب ولا قرابة تنفعهم. فأنت لا تتخذ من مخالفات الناس دليلاً وسلماً لمعصية الله، ولكن عليك بالوفاء بما عاهدت غيرك عليه، وإن كان غيرك يخالف ذلك فليس لك أن تخالفه أنت.