سر بلاغة الاستعارة المكنية
بلاغة الاستعارة
تأتي بلاغة التشبيه من ناحيتين: يتميز الأديب بالناحية الأولى وهي تأليف ألفاظه، والناحية الثانية وهي الابتكار المشبه بعيدًا عن الأذهان، والتي لا تكون إلا في نفس الأديب الذي وهبه الله الاستعداد للتعرف على وجوه التشابه الدقيقة بين الأشياء، ووهبه الله تعالى القدرة على ربط المعاني وتوليد بعضها من بعض إلى مدى بعيد لا يكاد ينتهي.
سر بلاغة الاستعارة
لا يتخطى سر جمال الاستعارة هاتين الناحيتين:
- إن تكوين بلاغتها من حيث اللفظ يدل على استخدام الوصف بدلاً من التشبيه.
- تساعدك الصورة الجديدة التي تخيّلتها على نسيان رعب الصورة الأولى والتشبيهات الخفية والمستورة في الكلام.
على سبيل المثال قول البحتري في الفتح بن خاقان: يسمى بـ `كف على العافين` حيث يتصبب على العافين بالرحمة والبركة، وقد تم توصيفه بصورة سحابة تتساقط على العافين، مما يثير المشاعر ويفاجئ الشخص بتعابيره المجازية
وأيضاً في قوله في رثاء المتوكل وقد قتل غيلة: صريع ما يأخذه الليالي من الحشيش، والموت هو الذي يمتلك أظافر حمراء
هل يمكنك تجاهل هذه الصورة المخيفة للموت، وهي صورةٌ لحيوانٍ مفترسٍ ضارٍبٍ أظافره في دماء قتلائها؟
ولهذا السبب تكون الاستعارة أبلغ من التشبيه البليغ، وسبب ذلك يرجع إلى إن بنى على ادعاء أن المشبه والمشبه به لا يزال التشبيه فيه ملحوظاً على عكس الاستعارة، فالتشبيه فيها منسي، وذلك يوضح لك أن الاستعارة المرشحة أبلغ من الاستعارة المطلقة، وأن الاستعارة المطلقة أبلغ من المجردة.
ومن حيث الإبداع والتميز في استخدام الاستعارة في البلاغة وتأثيرها العميق على نفوس السامعين، فإن هذا هو مجال شاسع للإبداع وميدان لتسابق الفرسان المجيدين في فن الكلام.
على سبيل المثال قوله تعالى في وصف النار:تكاد تميز من الغيظ كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير” تقريبا تعرف أنه عندما يلقى فيها فريق، يسألونه عن خزنتها: “هل وصلكم إنذار”، حيث تتخيل النار أمامك على شكل كائن ضخم غاضب الوجه يغلي غضبا، ثم على سبيل المثال أيضا قول أبو العتاهية في تهنئة المهدي بالخلافة: “الخلافة تأتيه مطيعة له تجر أذيالها”، ستجد أن الخلافة هيفاء مدللة تثير انتباه جميع الناس، وترفضهم وتعارضهم، لكنها تأتي للمهدي بطاعة وتدليل تجر أذيالها، حيث قام أبو العتاهية بتشبيه تلك الصورة بإبداع وستظل مقبولة بصورة دائمة في العقول والآذان.
كمثال، عندما قال: “إذا استل منا سيد غرب سيفه تفزعت الأفلاك والتفت الدهر”، فما هو شعورك واحساسك عند سماع هذا القول؟ وكيف تخيلت صورة الأفلام العظيمة حية وحساسة ومفزوعة، وكيف تصورت الدهر وهو يلتفت بدهشة؟ ثم استمع إلى قوله في منفاه وهو ينهب اليأس والأمل: “أسمع في نفسي دبيب المنى وألمح الشبهة في خاطري”. هنا، رسم لك صورة للأمل وهو يتمشى في نفسه ويحس به ويسمعه. هل رأيت إبداعا مثل هذا في تصوير الشك والأمل؟ وهل رأيت ما للاستعارة البارعة من أثر
ما هي الاستعارة المكنية
الاستعارة المكنية هي تشبيهٌ يتم فيه حذف المشبه به ورمزه بشيءٍ من صفاته، وبالتالي لا يتم الإشارة إلى المشبه به باللفظ، ولكن يتم حذفه والإشارة إليه بصفاته التي تدل عليه.
يتم إجراء الاستعارة المكنية بنفس طريقة الاستعارة التصريحية، باستثناء تحديد الصفات التي تشير إلى المشبه به المحذوف.
سر بلاغة الاستعارة المكنية
تعتبر القيمة البلاغية للاستعارة في هذا الإطار في الأساليب العربية لما تضيفه من الفتنة والجمال فتكسب المعنى القوة و الوضوح، ووضوح الفكرة في لوحة بديعة يتضح على صفحتها كل معالم الإبداع والفن ، كما أنها تحلق بالسامع في سماء الخيال فتصور له الجماد حياً ناطقاً ، والزهر باسماً، والأمل غادة حسناء .
على سبيل المثال قول البارودي: أسمع صوت الأمل في داخلي… وأشعر بالشك يتسلل إلى خواطري”، هنا قد أبدع البارودي واستخدم خياله الخصب ليصور صورة للأمل يتجسد ويسمع بوضوح في النفس، والآن الشكوك والهواجس أصبحت لها وجود ملموس يمكن رؤيته بالعين المجردة. هل رأيت إبداعا مثل هذا في تجسيد التضاريس المختلفة للشك والأمل؟ وهل رأيت تأثيرا جماليا مشابها للاستعارة البارعة؟ فالبيت هنا يصبح لوحة فنية رائعة تكشف عن كل جوانب الإبداع والجمال.
وتستخدم الاستعارة في البيت هنا كمصطلح مكنون، حيث قام الشاعر بمقارنة كلاً من دبيب وألمح بإنسان ثم حذف المشبه به، وهو الإنسان، ورمز إليه ببعض صفاته مثل في الأولى (دبيب) وفي الثانية (ألمح).
تعتبر الاستعارة واحدة من أروع الألوان البلاغية، ويعود ذلك إلى جمالية وإيجاز استخدامها في التعبير والاختيار الدقيق للكلمات، حيث تعد اللغة أداة لنقل الأفكار بشكل دقيق وفي نفس الوقت تعبر عن المعنى بطريقة فنية، وهي تعد واحدة من الألوان البلاغية الرائعة الأخرى.
أمثلة لصور الاستعارة المكنية
- قال أبو ذؤيب الهذلي: فإذا حل الموت وجعل أظفاره في الجسم… سيكون كل الثروات التي لا تفيد
في البيت الشعري السابق، استخدم الشاعر تشبيها مكنيا في كلمة (المنية)، حيث قارن المنية بالسبع بأن كل منهما يقوم بقتل الأرواح بقسوة دون تمييز بين منتفع ومضر. وفي هذا السياق، قام الشاعر بحذف الكائن المشبه به وهو السبع، واستخدم صفاته المميزة وهي الأظفار كرمز له. تألق الشاعر في هذا التشبيه بوضوح أن المنية هي فعل منطقي لا يمكن أن يكون ملموسا سوى في العقل كصورة للأمر المحسوس. وجعل الشاعر المنية المنطقية هنا سبعا يقتل الأرواح دون تمييز بين الأرواح المفيدة والأرواح الضارة. هذا الاستعارة أثارت إعجاب المستمع في عالم الخيال وأثرت في عواطفه وذهنه، حيث وقف مذهولا أمام هذا التشبيه الجميل.
- قال دعبل الخزاعي: “لا تتعجبي يا سلم من رجل… الذي ضحك بشدة حتى بكى”
في هذا البيت استعارة مكنية في لفظ ( المشيب ) ، حيث شبه الشاعر المشيب هنا بإنسان، وهنا حذف المشبه به وهو الإنسان ورمز إليه بشيء من صفاته وهو الضحك، وقد أبدع الشاعر في هذا الاستعارة من تشبيه يجعل الجماد كائن حي عاقل له أحاسيس و مشاعر و أنه يضحك إذا رأى من المناظر ما يثير عاطفته و يحرك أحاسيسه.
- قال أبو العتاهية: “أتته الخلافة منقادة…إليه تجرر أذيالها”
في هذا المنزل، تم استخدام استعارة مجازية في استخدام كلمة “الخلافة”. وصور الشاعر الخلافة هنا كأنها غادة حسناء، ثم حذف الشبه والمشبه به ورمز إليه بصفته جرذ الذيل. وهذه الاستعارة جميلة ورائعة، والسر في جمالها يرجع إلى توضيح المعنى المعقول الخفي في الصورة المحسوسة، حيث وصف الخلافة بفتاة جميلة تثير الشهوات وتحبها القلوب، وجعل المعنى المعقول نابضا بالحياة، ثم خلع عنها ثوب الغادة الحسناء، ورسم منظرا جميلا للخلافة. وبذلك، أبدع أبو العتاهية في تشبيه تلك الصورة، وستظل هذه الاستعارة محبوبة ومألوفة للناس دائما.
- قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ” بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ”
يتم تشبيه الإسلام بالبيت، ويتم حذف المشابهة للإسلام وهي البيت، ويرمز إليه بشيء من لوازمه الجوهرية وهو البناء.
- قوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)
حيث ارتبط الذل بالطائر، وحذف المشبه به – الطائر – ورمز إليه بشيء من لوازمه – الجناح.