تفسير ” فاحتمل السيل زبدًا رابيًا “
: يشبه الله الحق والباطل بمثل الزبد الذي يذهب جفاء، ويشبه ما ينفع الناس بمثل الشيء الذي يبقى على الأرض، وذلك بناء على ما أنزل من الماء فانسابت الأودية بقدره، وحمل السيول الزبد الرابي؛ وكذلك حملت القلوب اليقين والشك، فإن الأعمال التي تقوم بها القلوب المشكوكة لا تنفع مع الشك، وأما اليقين فإن الله ينفع به أهله
تفسير الآية:
اشتملت هذه الآية الكريمة على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه، والباطل في اضمحلاله وفنائه فقال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}: أي مطراً، {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}: أي أخذ كل واد بحسبه، فهذا كبير وسع كثيراً من الماء، وهذا صغير وسع بقدره، وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها، فمنها ما يسع علماً كثيراً، ومنها من لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا}: أي فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زبد عالٍ عليه، {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ}: هذا هو المثل الثاني وهو ما يسبك في النار من ذهب أو فضة.
{ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ}: يجعل الله المتاع من الحديد أو النحاس أو الذهب، ولكن يتم طرد الزبد منه، بحيث يطفو على السطح، ويحدث هذا مع الزبد بغض النظر عن المادة التي يصنع منها المتاع، وكذلك يرمز الله بذلك إلى الحق والباطل، فإذا اجتمعا معا، فإن الباطل لا يدوم، وكما أن الزبد لا يختلط مع الماء والمعادن الثمينة التي تصهر في النار، فإنه يتفرق ويذهب، وهذا هو مصير الباطل، وأما الذهب والفضة والنحاس والحديد، فإنها تستمر في الاستخدام وتبقى مفيدة للناس، وهذا ما يرمز إليه الله بهذه الأمثال.
وقال بعض السلف: عندما أقرأ مثالا من القرآن ولا أستوعبه، أبكي على نفسي لأن الله تعالى يقول: `وما يعقلها إلا العالمون` [العنكبوت:43]، وقد قال ابن عباس: إن هذا مثل ألقاه الله، يتحمله القلب بحسب يقينه وشكه. فالشك لا يفيد معه العمل، وأما اليقين، فيفيد الله به أصحابه. وهذا هو قوله: `فأما الزبد`، وهو الشك، `فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض`، وهو اليقين. وكما ينزع الذهب الخالص من النار ويترك الشوائب فيها، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: `أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا`”: يعني أن السيل يحمل ما يوجد في الوادي من أعواد وأغصان.
{وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ}: هو الذهب والفضة والمجوهرات والأشياء المادية والنحاس والحديد، وللنحاس والحديد شوائب، فجعلها الله مثل شوائبها كزبد الماء، فالذهب والفضة هما ما يفيد الناس، وما يفيد الأرض هو ماء الشرب الذي ينبت النباتات، وجعل ذلك مثلا للأعمال الصالحة التي تبقى لأصحابها، والأعمال السيئة تزول عن أصحابها، تماما كما يزول هذا الزبد، وهكذا الهدى والحق، فكلاهما من عند الله، فمن يعمل بالحق يكون له ويبقى كما يبقى ما يفيد الناس في الأرض، وهكذا الحديد لا يمكن استخدامه لصنع سكين أو سيف حتى يتعرض للنار وتحرق شوائبه ويخرج نقيا ليستفاد منه، وهكذا يزول الباطل، فعندما يحين يوم القيامة وتعرض الأعمال، يضيع الباطل ويهلك، ويستفيد أصحاب الحق من الحق.
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به من هدى وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به