تفسير ” إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا “
{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [سورة الإسراء: 37-38]
تفسير الآيات:
{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا}: يقول تعالى ناهياً عباده عن التجبر والتبختر في المشية: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} أي متبختراً متمايلاً مشي الجبارين، {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ}: أي لن تقطع الأرض بمشيك، {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا }: أي بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك، بل قد يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده، كما ثبت في الصحيح: «بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم وعليه بردان يتبختر فيهما إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة».
وذكر الله تعالى قصة قارون الذي خرج على قومه متزينا، وأن الله تعالى غمره بالأرض مع داره، وفي الحديث: `من تواضع لله رفعه الله، وهو في نفسه متواضع وعند الناس كبير`. ورأى البخاري رجلا من آل علي يخطر في مشيته، فقال له: `يا هذا! ما أكرمك به ليس هذا مشيك`، فتركه الرجل بعد ذلك.
ورأى ابن عمر رجلاً يخطر في مشيته، فقال: إن الشياطين لديهم إخوة، وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم سلط بعضهم على بعض”، وقوله: “كل ذلك كان فعلا سيئا ومكروها عند ربك”: أي كل ما ذكرناه من قوله: “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه” [الإسراء: 23] حتى الآن، كان سيئا وقبيحا ومكروها عند الله.
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: فيه خمس مسائل:
– الأولى: قوله تعالى {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} هذا نهي عن الخيلاء وأمر بالتواضع. والمرح : شدة الفرح. وقيل : التكبر في المشي. وقيل : تجاوز الإنسان قدره. وقال قتادة : هو الخيلاء في المشي. وقيل : هو البطر والأشر. وقيل : هو النشاط وهذه الأقوال متقاربة ولكنها منقسمة قسمين : أحدهما مذموم والآخر محمود؛ فالتكبر والبطر والخيلاء وتجاوز الإنسان قدره مذموم والفرح والنشاط محمود.
– الثانية: رغم عدم الحاجة إلى ذلك، يظهر رغبة الإنسان في الصيد وأمور مشابهة، ويعتبر ذلك انحرافا عن المعنى الحقيقي للآية، حيث يتضمن آلاما للحيوان وتعديا على حقوقه. أما إذا استراح الإنسان في بعض الأوقات النادرة، وأخذ وقتا من يومه للاسترخاء والاستجمام، ليستعين بهذا الأمر في أداء واجباته الدينية أو العملية، مثل قراءة أو مزاولة صلاة، فإن ذلك ليس من الانحراف المذكور في الآية.
– الثالثة: يعني قوله تعالى: {إنك لن تخرق الأرض}: أنه لن تدخل باطنها لتعلم ما فيها، {ولن تبلغ الجبال طولا}: أي لن تساوي طول الجبال ولا تتجاوزها. ويعني خرق الثوب شقه، وخرق الأرض قطعها. والخرق هو الجزء الواسع من الأرض. يعني أنك لن تقوم بنقر الأرض بأنفاسك ومشيك عليها بسبب عظمتك، لأن قدرتك لا تصل إلى هذا المستوى، وأنت عبد ذليل محاط من تحتك وفوقك، والمحاط محصور ضعيف، لذا لا يليق بك التكبر. والمقصود بخرق الأرض هنا هو نقرها وليس قطعها بالمسافة، والله أعلم.
– الرابعة: وفي قوله تعالى: `{كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها}`، المقصود بـ `السيء` هو المكروه، وهو ما لا يرضي الله ولا يأمر به. وذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية من الآيات أمرا ونهيا، فلا يعتبر الأمر المأمور به سيئة فيدخل في قوانين النهي.
– الخامسة: العلماء استدلوا بهذه الآية على ضرورة تجنب الرقص والاستمتاع به. قال الإمام أبو الوفاء بن عقيل: القرآن نهى عن الرقص قائلا: `ولا تمش في الأرض مرحا`، وذم المختال. والرقص هو أقصى درجات المرح والتفاخر. أليس نحن الذين حرمنا الخمر بسبب تأثيرها في الاضطراب والسكر؟ فلماذا لا نحرم الرقص والغناء مع الطنبور والمزمار والطبل بسبب تجمعهما؟ وقال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: بعض المشايخ أخبرني عن الإمام الغزالي رحمه الله قائلا: `الرقص هو حماقة بين الكتفين لا تزول إلا باللعب`. وسيتم توضيح هذا الموضوع بشكل أفضل في سورة الكهف وغيرها، إن شاء الله تعالى.