فن الرد عند عبد الله بن عباس
عبد الله بن عباس، الذي هو ابن عم الرسول الله، كان ترجمان القرآن وحظي بالذكاء والفطنة الكبيرة التي سمحت له بتفسير ما قد يكون صعبا على الآخرين فهمه، وبالتالي استحق لقب ترجمان القرآن بجدارة. وسوف نرى هنا أسلوبه الحكيم في الرد ببلاغة وفطنة على مجموعة من الأسئلة الصعبة، ولكنه كان دائما قادرا على الإجابة عليها بطريقة مدهشة.
عبدالله بن عباس والرد على قيصر الروم:
عن ابن عباس قال: كتب قيصر إلى معاوية: سلام عليك، أما بعد فأنبئني بأحب كلمة إلى الله، وثانية وثالثة ورابعة وخامسة، ومن أكرم عباده إليه، وأكرم إمائه؟ وعن أربعة أشياء فيهن الروح لم يرتكضن في رحم، وعن قبر يسير بصاحبه، ومكان في الأرض لم تصبه الشمس إلا مرة واحدة، والمجرة ما موضعها من السماء، وقوس قزح وما بدء أمره؟ فلما قرأ كتابه قال: اللهم العنه، ما أدري ما هذا؟
فأرسل إلى يسألني فقلت: أما أحب كلمة إلى الله فهي لا إله إلا الله، وهي الكلمة المنجية، والكلمة الثانية هي سبحان الله، وهي صلاة الخلق، والكلمة الثالثة هي الحمد لله، وهي كلمة الشكر، والكلمة الرابعة هي الله أكبر، وتستخدم في بداية الصلوات والركوع والسجود، والكلمة الخامسة هي لا حول ولا قوة إلا بالله. أما أكرم عباد الله إليه فهم آدم الذي خلقه الله بيده وعلمه جميع الأسماء، وأكرم إمائه عليه هي مريم التي حافظت على عفتها. والأربعة الأشياء التي فيها روح ولم تلطخ بالخطيئة هي آدم وحواء وعصا موسى والكبش، والمناطق التي لم يلطخها الشمس إلا مرة واحدة هي البحر عندما انفلق لموسى وبني إسرائيل، والقبر الذي سارت معه بطن الحوت الذي كان فيه يونس.
عبد الله بن عباس والرد على الخوارج:
بعث الإمام علي رضي الله عنه ابن عباس رضي الله عنه ذات يوم إلى طائفة من الخوارج، فدار بينه وبينهم حوار طويل، ساق فيه الحجة بشكل يبهر الألباب؛ فقد سألهم ابن عباس رضي الله عنه: ماذا تنقمون من علي؟
قالوا: ننتقم منه ثلاث مرات: أولا، لأنه يتدخل في حكم الرجال في دين الله، والله يقول: `إن الحكم إلا لله` [الأنعام: 57]. وثانيا، لأنه يقاتل ولكنه لا يأخذ من قتلته أسرى أو غنائم، فإذا كانوا كفارا، فقد أصبحت أموالهم حلالا له، وإذا كانوا مؤمنين، فقد حرم عليه قتلهم. وثالثا، لأنه عند التحكيم يرضى بأن يتخلى عن صفة أمير المؤمنين استجابة لأعدائه، فإذا لم يكن أمير المؤمنين، فهو أمير للكافرين.
وأخذ ابن عباس رضي الله عنه يُفَنّد أهواءهم، فقال: بالنسبة لقولكم: إنه حكم الرجال في دين الله، فما هو العائق؟! إن الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاءه مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم} [المائدة: 95]. فأخبروني بالله، هل تعتبرون أن تحكيم الرجال في سفك دماء المسلمين أكثر حقا وأولوية، أم تحكيمهم في قتل أرنب يقدر بدرهم؟
وأما قولكم: إنه قاتل لم يسب ولم ينهب. هل تريدون فعلا أن يأخذ عائشة رضي الله عنها زوجة النبي وأم المؤمنين كأسيرة وينهب ممتلكاتها؟! وبالنسبة لقولكم إنه رضي بأن يتنازل عن لقب أمير المؤمنين حتى يتم التحكيم، استمعوا إلى ما فعله رسول الله في يوم الحديبية. عندما طلب من الكاتب أن يكتب: `هذا ما قضاه محمد رسول الله`، قال المبعوث القريشي: `والله لو كنا نعلم أنك رسول الله، ما أبعدناك عن البيت ولا قاتلناك. فاكتب: هذا ما قضاه محمد بن عبد الله.` فرد عليهم الرسول قائلا: `والله إني رسول الله وإن كذبتم`. ثم قال لكاتب الصحيفة، الذي كان علي بن أبي طالب: `اكتب ما يشاؤون، اكتب: هذا ما قضاه محمد بن عبد الله`.