الوساطة الأبوية مع الطفل
نحن نعيش في عصر منفتح للغاية، خاصة مع التطور التكنولوجي الحالي، ونجد أنفسنا أمام الكثير من مصادر ووسائل الإعلام الحديثة التي ظهرت مؤخرًا وتطورت بسرعة كبيرة، بالإضافة إلى الوسائل التقليدية.
وشهد البث الفضائي تزايد أعداد القنوات الفضائية ، خلال الفترة الماضية خاصة في قطاع القنوات الخاصة ، التي بدأت في استحداث بعض أنواع البرامج ، ونقل أخرى من الثقافات الغربية ، ما جعل أغلب المحتوى الذي يتم بثه في أغلبه ، ضد العادات والقيم والتقاليد العربية التي تخصنا ، ووقفت المواقف العربية في مقابلها ، بين الاستهجان والاستحسان.
تتمثل المشكلة الرئيسية في غياب ثقافة التوسط الأبوي، والتي تعد الدور الذي يتحكم ويقوم بتصفية وفلترة كل ما يتعرض له الطفل من محتويات مختلفة، بين الإيجابي والسلبي، دون وجود رقيب، ويشمل ذلك تطوير ثقافة وتقنية وساطة الآباء مع الطفل .
خطورة وسائل الإعلام ووسائل الاتصال
الرسائل الاتصالية لم تعد تقتصر حاليا على وسائل الإعلام التقليدية فحسب، مثل الراديو والتلفزيون والمجلات والصحف، بل اتسعت الآفاق وانتشرت شبكة الإنترنت وأصبحت متاحة للجميع. اندفع الجميع نحوها وبدأ الأطفال في التواصل من خلالها، بدءا من عمر الثامنة وحتى الثامنة عشرة. المشكلة تكمن في قضاء الأطفال الصغار، الذين تتراوح أعمارهم بين ثمانية وعشرة أعوام، ساعات طويلة أمام الإنترنت، بمعدل 46 دقيقة يوميا، وفي سن الحادية عشرة والثانية عشرة، يقضون ما يعادل ساعتين وربع يوميا.
وبينما يبحث الباحثون في مختلف استخدامات الأطفال للإنترنت، توصل باحثو الاتصالات إلى أن الأطفال الصغار يستخدمون الإنترنت لمشاهدة محتويات هزلية مثل التحديات في تذوق الفلفل الحار ومحتويات الرقص الهزلي والسخيف. على سبيل المثال، يمكن أن يكون هناك مشاهد لشخص ناضج يرتدي ملابس فكاهية مثل ديك أو دجاجة ويرقص مع ضابط شرطة. وما يجذب الانتباه في مثل هذه العروض على مواقع الفيديو هو أن معظم هذه المقاطع ليست مناسبة للأطفال وتحتوي على العديد من المشاهد غير الملائمة لهم.
ومن أبرز مواقع عروض الفيديو ، موقع أو منصة اليوتيوب YouTube ، والذي حقق شهرة واسعة في وقت قصير ، وعلى الرغم من شهرته الواسعة ، إلا أنه يعتبر مشكلة في أي منزل وبين أي طفل ؛ وذلك لأن اليوتيوب لا يقوم بتصنيف محتواه وفقا للأعمار ، كما أنه يوصي بمحتوى مشابه لما تم مشاهدته ، لذلك يبدأ الطفل في مشاهدة أي شيء يصادفه ، والخطورة تكمن في أن جوجل قد أعلنت منذ إطلاق يوتيوب للأطفال أنه آمن ويقوم بتنقية المحتوى السيء تلقائيا ، ولكن بعد فترة وجد الباحثون في مجال الاتصال أن جوجل لم تف بوعودها ، وانتقدوا قلة اهتمام يوتيوب للأطفال بالاختيار المهني للمحتوى الذي يتم نشره لهم ، حيث كشفت الدراسة وجود العديد من الإعلانات التجارية غير الملائمة التي يتم تضمينها في المحتوى. والحل الوحيد في هذه الأزمة هو تعزيز ثقافة التوسط الأبوي أو التوجيه الأبوي.
تعريف الوساطة الأبوية
تم استخدام مصطلح الوساطة الأبوية لأول مرة خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وهو عبارة عن قواعد أو تفاعلات أو أدوار يقوم بها الآباء والأمهات للحد من تأثير وسائل الإعلام والاتصال على الأطفال.
أهمية الوساطة الأبوية
يعتبر الخبراء في علم الاتصال الوساطة الأبوية أمرا مهما، وهي ليست مجرد كلمة، بل هي تقنية يمكن استخدامها بطرق محددة لحماية الأطفال الصغار من المخاطر الناجمة عن وسائل الإعلام السلبية. وتساعد الوساطة الأبوية الآباء والأمهات على السيطرة على المحتوى الذي يشاهده أطفالهم وحمايتهم. ويعد الدور الرقابي الذي يلعبه الوالدان تجاه أطفالهم أحد العوامل الأساسية في الحد من المحتوى السلبي .
تقدم بعض المحتويات العنف للأطفال بطريقة لطيفة في الكارتون والرسوم المتحركة والأفلام والمسلسلات، وتتضمن حالات عنف لفظي وجسدي مختلفة، ويؤثر هذا على سلوك الطفل، إذ يحاول التقليد دون وعي أو تفكير فيما يكمن خلف هذا التصرف أو ذاك، وأثبتت الدراسات العلمية أن الأطفال الذين يتعرضون لوسائل الإعلام بشكل أقل من قبل الوالدين هم الأكثر تأثرا بالآثار السلبية.
أنواع الوساطة الأبوية
لا تتوقف التقنيات والاستراتيجيات المتعلقة بالوساطة الأبوية عند تقنية واحدة فقط، وإنما تنقسم الوساطة الأبوية إلى عدة أنواع، وتساعد جميعها الآباء والأمهات على تجاوز تأثيرات وسائل الإعلام السلبية على أطفالهم، وتختلف هذه الأنواع أيضًا وفقالمرحلة العمرية التي يمرون بها الأطفال.
الوساطة النشطة Active or Instructive Mediation
يشير هذا النوع من التقنيات في لوساطة الأبوية ، إلى المشاركة والنقاش وتبادل الآراء ، بين أفراد الأسرة كالأب والأم والأبناء ، بشأن ما يشاهدونه من محتويات عبر وسائل الإعلام ، ويكون الهدف من النقاش هو التعرف على كيفية فهم الأبناء المضمون المحتوى ، وتصحيح المفاهيم الخاطئة فيما شاهدوه ، وتوجيههم نحو الأفضل.
في هذه الحالة، يتدخل الوالدان أو أحدهما بعد المناقشة. إما يوافقان على ما تم مشاهدته وفهمه من قبل الأبناء ويدعمانه، ويعرف هذا بالتدخل الإيجابي الداعم. أو ينتقدان المحتوى ويرفضان تعرضه للأبناء، موضحين أسباب رفضهما، ويعرف هذا بالتدخل الإيجابي النقدي. أو لا يعبران عن رأي واضح تجاه المحتوى، ويعرف هذا بالتدخل المحايد أو الحيادي.
الوساطة المقيدة Restrictive Mediation or Rulemaking
يشير هذا النوع من أنواع التوسط الأبوي ، إلى الضوابط والقواعد الصارمة ، بشأن مشاهدة بعض المضامين والمحتويات بوسائل الإعلام ، خاصة إذا ما كان الأطفال في مرحلة الطفولة أو تخطوها إلى مرحلة المراهقة ، فيبدأ الأبوان في وضع قواعد عدد ساعات محددة للمشاهدة ، أو نوع محدد من المحتويات تتم مشاهدته دون غيره.
إلا أن هذا النوع قد أثبت عدم جدواه على مدار السنوات السابقة ، حيث خضع للدراسة والبحوث التجريبية العميقة ، التي كشفت عن وجود تأثيرات سلبية لهذا النوع من التوسط الأبوي ، مقارنة بما هو إيجابي ، وكان السبب هو رد فعل الأبناء على مثل هذه القيود ، والتي تباينت بين رؤية الأكبر سنًا من بينهم لهذا النظام بأنه تعنت من جانب الأبوين ، دليل قاطع على عدم ثقة بهم ، كما بدأت مظاهر العناد في الظهور بينهما ، فبدؤا لا يتبعون التعليمات ظنًا منهم ، أن ما يفعلونه سيجعل الآباء يحترمون أنهم قد بلغوا ينضجوا ولهم كامل الحرية في مشاهدة ما يرغبون به ، بينما كان الجانب الأخطر ، هو اتجاه الأبناء لمشاهدة ما تم منعهم عنه ، حيث كونوا أفكارًا إيجابية تجاه هذا المضمون الممنوع ، وبدؤوا في البحث عن بدائل لمشاهدته إما بمفردهم أو برفقة الأصدقاء.
الوساطة بالمشاركة Co-Viewing Mediation
هذا النوع يعني مشاركة الأبوين لأطفالهم فيما يشاهدونه، حيث يكون للطفل رؤية إيجابية تجاه المحتوى، ويعتاد تصفية كل ما يشاهده ويفكر فيه، دون أن يقلده بدون تفكير. وهذان النوعان ينقسمان إلى تدخل متعمد من جانب الوالدين، حيث يفرض الآباء محتوى معين للمشاهدة كالبرامج التعليمية على سبيل المثال. والنوع الثاني هو التدخل المتعمد السلبي، ويعني الجلوس ومشاركة الطفل في المشاهدة للتسلية.
تعتبر الوساطة النشطة والوساطة بالمشاركة أفضل أساليب وتقنيات التوسط الأبوي، حيث تهدفان إلى التوعية والإرشاد وتزرعان الثقة في الطفل بنفسه للتقييم الصحيح للمضمون الذي يشاهده، وهذا ما أثبته الأبحاث العلمية في هذا المجال.
وعلى صعيد آخر ، ارتبطت الوساطة التقييدية ببعض الإيجابيات أيضًا ، فليست كلها سلبية كما أظهرت نتائج الكثير من الدراسات العلمية ، حيث ارتبطت بتحديد مواعيد أقصر للتعامل بين الطفل ووسائل الإعلام ، إلا أن التأثيرات السلبية مثل تعلم السلوكيات العنيفة والعدوانية كانت هي الأكثر ظهورًا.
يتطلب من الآباء تحديد التقنية المناسبة للوساطة الأبوية، والتي تختلف أيضا حسب الوسائل المختلفة، فمراقبة تفاعل الطفل مع التلفزيون تختلف عن مراقبته لاستخدامه للإنترنت، وأشارت دراسة لـ كونويل وآخرين Connel et al. 2015 إلى الدور الإيجابي الذي يلعبه المشاهدة المشتركة بين الآباء وأطفالهم في مشاهدة وسائل الإعلام، وتأثيرها على الأفكار والسلوكيات بشكل واضح.
كما أشارت دراسة بافيل إيزرائيل Pavel Izrael عام 2013م ، إلى أهمية المستوى التعليمي للأم والأب في التوسط الأبوي ، وأنه كلما ارتفع المستوى التعليمي لهما كلما ظهرت وساطة أبوية مقيدة تجاه تعامل أبنائهم مع وسائل الإعلام ، كما أنهم أظهروا قدرة على التفاعل اللفظي مع الأبناء أثناء المشاهدة مقارنة بالأقل تعليمًا.
المراجع
- Courtney K. Blackwell et al., (2014), Children and the Internet: Developmental Implications of Web Site Preferences among 8- to 12-Year-Old Children, Journal of Broadcasting & Electronic Media, Vol.58, No.1, pp1-20.
- Marsh, J. et al., (2016), Young Children’s Initiation into Family Literacy Practices in the Digital Age, Journal of Early Childhood Research, Vol.15, No.1, pp47-60.
- Elias, N., & Sulkin, I. (2017), YouTube Viewers in Diapers: An Exploration of Factors Associated with amount of Toddlers’ Online Viewing: Cyber psychology, Journal of Psychosocial Research on Cyberspace, Vol.11, No.3, pp1-17.
- Dalia Liran Alper and Geffen Shelly, (2015),Children as Players on an Adult Stage: Representation of Boys and Girls on Israeli Prime Time Reality Television Programmes, Paper Presented to Children, Adolescents, and the Media (CAM) Business Meeting,San Juan, Puerto Rico, p.2
- Anthea Henderson, (2016), Family as Mediation– A Caribbean Perspective, Working Paper, (London: Media@LSE, and Political Science.,) (“LSE”), p.38.
- Jennifer Ruh Linder & Nicole E. Werner, (2012), Relationally Aggressive Media Exposure and Children’s Normative Beliefs: Does Parental Mediation Matter?, Family Relations, Vol.61, pp 488-500.
- Sara Prot et al., (2015), Media as Agents of Socialization, In J.E. Grusec and PhD. Hastings (Eds.), Handbook of Socialization, 2nd ed, ( New York: Guilford Press), p.282
- Sabrina L. Connell, Alexis R. Lauricella and Ellen Wartella, (2015), Parental Co-Use of Media Technology with their Young Children in the USA, Journal of Children and Media, Vol.9, No.1, pp5-21
- Sean Meehan ,(2016), A Model of Parental Mediation of their Children’s Use of Internet Connected Devices, Journal of Psychology and Clinical Psychiatry, Vol.5, No.5,p.4.
- نسمة إمام سليمان، لغة التليفزيون وآثارها على الطفل، (القاهرة: دار العربي للنشر والتوزيع)، 2019.