تفسير ” ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن “
{ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ سورة العنكبوت : 46 ]
تفسير الآيات ابن كثير :
{ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } قال قتادة وغير واحد : هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولم يبق معهم مجادلة، وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف، وقال آخرون : بل هي باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين، فيجادل بالتي هي أحسن، ليكون أنجع فيه أي أنجح في سعيه، كما قال تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [ النحل : 125 ]، وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون : { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ طه : 44 ] وهذا القول اختاره ابن جرير، وحكاه عنه ابن زيد.
وقوله تعالى: { إلا الذين ظلموا منهم } يعني أنهم ارتكبوا الظلم بالابتعاد عن الحق، وتجاهلوا الحجة الواضحة، وتكبروا وعاندوا، ففي ذلك الوقت ينتقل الأمر من الجدال إلى الجلاد، ويحاربون بما يمنعهم ويثنيهم. قال جابر: أمرنا بضرب من خالف كتاب الله بالسيف. قال مجاهد: { إلا الذين ظلموا منهم } يعني أهل الحرب ومن رفض منهم أداء الجزية. وقوله تعالى: { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } يعني إذا أخبروا بشيء لا نعلمه صدقهم أو كذبهم، فلا نسبق إلى تكذيبهم لأنه قد يكون حقا، ولا نصدقهم فقد يكون باطلا، ولكن نؤمن به بشكل عام.
نقل البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون }». وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لا تسألوا أهل الكتاب عن أي شيء، فإنهم لن يهديكم وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بالحق أو تصدقوا بالباطل، فإنه ليس هناك أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال.
ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في البخاري قوله: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي نزل عليكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأحدث، وتقرؤونه كما نزل دون تحريف. وقد حدثكم أن أهل الكتاب غيروا وبدلوا من كتابهم بأيديهم وقالوا: “إنه من عند الله” ليشتروه بثمن قليل. ألا ينهاكم العلم الذي جاءكم عن السؤال عنهم؟ فوالله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن ما نزل عليكم.
وحدّث معاوية رهطاً من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار، فقال : إذا كان أحد هؤلاء الحديثين الذين يتحدثون عن أهل الكتاب صادقا، فمع ذلك سنختبره بالكذب. [رواه البخاري وهو موقوف على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه]. وقال ابن كثير: المعنى هو أنه قد يتكلم بالكذب دون قصد، لأنه يتحدث عن صحف يعتقد أنها صحيحة ولكن بها أشياء مزيفة وكاذبة.