خطبة قس بن ساعدة
عُرف العرب بالبلاغة والحكمة منذ القدم واشتهروا بإلقاء الخطب ولعل الاضطراب الديني والقلق الروحي اللذين سادا الجزيرة العربية قبل الإسلام كان سببًا في ظهور الحكماء الذين يدعون القوم لنبذ ما هم عليه من الجهل والضلال وما كانوا يتعلقون به من عادات ونزعات غير حميدة ومن أشهر الحكماء في تلك الزمان قيس بن ساعدة .
من هو قيس بن ساعدة
هو واحد من حكماء العرب قبل الإسلام وتوفي عام 600م، أي قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث وعشرين عاما. ينتمي إلى قبيلة إياد، ونسبه يعود إلى قس بن ساعدة بن حذافة بن زفر بن إياد. في بعض الروايات الأخرى يقال له: قس بن ساعدة بن عمرو بن عدي بن مالك بن ايدعان بن النمر بن وائلة بن الطمثان بن عوذ مناة بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد. كان نصرانيا وكان أسقفا لكعبة نجران. كان مثله مثل الطوائف المسيحية واليهودية التي انصرفت للتبشير والإرشاد الديني والدعوة للتحلي بالخلق الحميد والزهد في الدنيا. ولم تذكر المصادر التاريخية عن قس بن ساعدة شيئا غير أنه عاش طويلا .
وقد أثار الرهبة وأخذ المسيح في البراري والقفار، وكان يحث الناس على الإيمان ويدعوهم للإيمان بالبعث واليوم الآخر ونبذ عبادة الأوثان والأصنام التي كانت منتشرة في الجاهلية. وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن له شعرا ونثرا في الوعظ والإرشاد والتنبيه للكون الخالق، وأن الله تعالى هو الواحد الأحد وأن للكون خالقا واحدا، فقد قال
يا ناعي الموت والملحود في جدث، عليهم من بقايا نومهم حذف
دعهم فإن لهم يومًا يصاح بهم فهم إذا انتبهوا من نومهم ارقوا
حتى يعودوا بحال غير حالهم خلقًا جديدًا كما كان من قبله خلقوا
منهم عراة وموتى في ثيابهم ومنها الجديد ومنها الأزرق الخلق .
خطبة قس بن ساعدة
ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في سوق عكاظ وهو يخطب على جبل أحمر بكلام معجب يقول: “يا أيها الناس، اسمعوا وعوا وإذا فهمتم فانتفعوا، فإن من عاش فسيموت، ومن مات فذهب، وكل ما هو آت سوف يأتي، سواء كان من المطر والنباتات والرزق والطعام والآباء والأمهات والأحياء والأموات، فجمع واشتت، ومن آيات الله ما في الأرض ذات الرتاج والبحار ذات الأمواج، وما لي أراكم تذهبون ولا تعودون؟ فارضوا في محلكم، فإما أن تقوموا وتعملوا وإما أن تناموا وتركتم الأمر لغيركم، وأقسم قسما لا يخالفه حثالة ولا آثم، إن دين الله هو الأحب إلى الله من دينكم، ولقد حان وقت النبي الذي أرسله الله .
وأظلكم أوانه فطوبى لمن آمن به فهداه , وويل لمن خالفه وعصاه ثم قال تباً لأرباب الغفلة من الأمم الخالية والقرون الماضية يا معشر إياد أين الآباء والأجداد وأين ثمود وعاد وأين الفراعنة الشداد أين من بنى وشيد وزخرف ونجد وغره المال والولد أين من بغى وطغى وجمع فأوعى وقال أنا ربكم الأعلى ألم يكونوا أكثر منكم أموالاً وأطول منكم آجالاً وأبعد منكم آمالاً طحنهم الثرى بكلكله ومزقهم بتطاوله فتلك عظامهم بالية وبيوتهم خاوية عمرتها الذئاب العاوية كلا بل هو الله الواحد المعبود ليس والد ولا مولود ثم أنشأ يقول :
في القرون الأولى للهجرة، كان لدينا بصائر
عندما رأيت موارد الموت التي لا تملك مصادر
ورأيت قومي نحوها تمضي الأصاغر والأكابر
الماضي لا يعود ولا يبقى من الباقين غابرًا
أدركت أنني سأكون حيثما اصبح الناس منحرفين
فقال الرسول، صلى الله عليه وسلم، عنه: `رحم الله قيساً، إني أرجو أن يبعثه الله لأمة واحدة`
تحليل لخطبة قس بن ساعدة
تعد خطبة قس بن ساعدة من أبرز الخطب الوعظية ليس على مستوى المضمون فقط بل على مستوى التركيب ، والتركيب الصوتي بالذات فلم يصل لهذا المستوى إلا بعد رحلاته الطويلة بين الألفاظ وسحر الموسيقي وتلاحم المعاني ، فقد حشد قس المرسل طاقة صوتية كبيرة في خطبته حيث تواشجت مع المعاني بنسيج رائع ، كما أن الطاقة الصوتية المخزونة تكمن في الألفاظ بكل ما تحتويه من أصوات تختلف في وضوحها السمعي وقدرتها على إبراز المعنى بوضوح .
يمكن رؤية البنية الصوتية لخطبة قس بن ساعدة من خلال اختيار الأصوات المهموسة والمرتفعة التي تتناغم مع وحدات الجمل، كما يظهر استقلالية كل فقرة بإيقاع محدد مع استمرار التأثير في المعنى، وهذا ما تعكسه اللغة العربية من أسرار وما يتجلى فيها من توافق بين الدلالات الصوتية والانفعالات المرتبطة بها، وما يتبع ذلك من تركيز وسرعة وبطء وأيضا تكرار وتنويع في النغم، وهذا يحقق إشباعا سمعيا بسبب التركيز على صوت الواو اللين وتكراره بالألف، كما أن المد يعطي استمرارا للصوت وامتدادا للتنفس ليصل إلى الجمهور المستمع، فالدعوة في المقام الأول لتحث الناس على التعظيم وتذكيرهم بالموت .
أما على المستوى التركيبي فقد استهلت بنية هذا الخطاب بالصيغة الندائية المتعلقة بالخطاب الأمري الصادر عن المرسل والذي قصد حمل المرسل إليه على الأخذ به والالزام وذلك في قوله ” أيها الناس اسمعوا وعوا “فقد استهل ذلك محدثًا الناس وداعيًا لهم إلى الإتغاظ والأخذ بسبل التأمل والعقل.