شرح قصيدة واحر قلباه
تعتبر هذه القصيدة هي القصيدة الأخيرة التي قالها المتنبي، وكانت من بين القصائد التي انتقد فيها سيف الدولة بعد أن خيانة وشى بينهما. المتنبي، أو أحمد بن الحسين الجعفي الكندي، هو الشاعر الذي ولد في مدينة الكوفة، واشتهر بقصة التنبؤ وزعمه أنه نبي، ولكن هذه الشائعة لم تذكر في الكتب الرئيسية، حتى أنه لم يفضل اسم “المتنبئ” الذي اشتهر به بين العامة
مناسبة قصيدة واحر قلباه
بعدما تم التداول بين المتنبي وسيف الدولة بشأن الوشاة، اعتذر المتنبي وأعرب عن استيائه وحزنه، كما قدم مدحًا لسيف الدولة. كانت القصيدة في البداية عبارة عن انتقاد لسيف الدولة بسبب صدقه للوشاة الذين أفسدوا العلاقة بينهم، وكان المتنبي في حالة من الضيق والأسى .
شرح قصيدة واحر قلباه
ابتدأ المتنبي قصيدته بالتأوه وخالف الضرب القديم للقصائد الذي كان يبدأ بالوقوف على الأطلال ثم الغزل ليدخل في الغرض الرئيس للقصيدة، واستنكر في بداية القصيدة فعل سيف الدولة معه .
واحرص قلبي على من هم برائحته، وما يخطط لي وما يعانى عندي يتلاشى
ليس لدي سبب لإخفاء حبي الذي تعافى جسدي، وتدعو حب سيف الدولة الأمم
إذا كان حبه يجمعنا، فليكن لي قدر الحب الذي نشتاق إليه
يشتكي قلبه ولهيبه رغم حالة سيف الدولة التي تعكس ذلك تماما، حيث يسود هدوء نفسه واستقرار قلبه بدون شعور بلهيب المتنبي وما يعانيه ببعده عن سيف الدولة. يظهر المتنبي وكأنه يعاني من مرض وضعف دون أن يهتم سيف الدولة بتلك المعاناة التي يشعر بها المتنبي. المتنبي يفضل قول “واقلبي” بدلا من “واقلباه”، حيث يحذف الياء ويستخدم الألف للتخفيف، وهذا ما يلجأ إليه العرب عادة، خاصة في النداء. ويسأل وهو في حالة استفهام: لماذا أكتم حب سيف الدولة، ذلك الحب الذي يمتلك وجداني ويسيطر على عقلي وقلبي بحب صادق، بينما الجميع يظهرون ذلك الحب على الرغم من عدم صدقهم فيه. إنه حب زائف لا أساس له ولا دليل، ولا يمكن مقارنته بحبي الذي يسيطر على عقلي وقلبي على حد سواء. وهذا الحب الذاتي هو سبب ضعف جسدي، ولا تعتقد أن كتمان هذا الأمر سهل، بل هو أصعب ما يمكن .
يتحدث المتنبي عن قدر المحبة التي شعر بها تجاه سيف الدولة ويتمنى أن يتمكن من محاسبة نفسه على مدى تلك المشاعر العميقة، حيث يصف أنه إذا كان الجميع يشتركون في محبته، فإنه يتمنى أن يكون لديه أداة لتقييم قدر تلك المحبة. ويؤكد المتنبي أنه يثق في أنه سيفوز ويتغلب على الجميع بسبب محبته العميقة لسيف الدولة .
بعد ذلك، يتحدث المتنبي عن غرض المدح الذي اشتهر به في شتى قصائده التي كتبها، ويبدو أن هذه الأبيات الأولى كانت بمثابة تمهيد ومقدمة لما يريد أن يقوله لسيف الدولة، حيث قال في المدح .
قد زرته وسيوف الهند مغمدة وقد نظرت إليه والسيوف دم
فكان أحسن خلق الله كلهم وكان أحسن مافي الأحسن الشيم
فوت العدو الذي يممته ظفر، في طيه أسف ونعم
قد ينتابك الخوف الشديد وتتظاهر بالهيبة التي لا تصنعها البهم
ألزمت نفسك شيئا ليس يلزمها أن لا يواريهم أرض ولا علم
يقصد المتنبي بتلك الأبيات الشعرية ملازمته لسيف الدولة سواءا في السلم أو الحرب ، واكتشف من خلال الملازمة له أن سيف الدولة كان من أحسن خلق الله إن لم يكن هو أفضلهم فعليا وذلك من خلال أخلاقه التي يتحلى بها في المعاملة مع الجميع ، وبالرغم من أن الأوقات العصيبة تخرج الصفات الغير محببة للجميع إلا أن سيف الدولة كان مختلف على الجميع في حفاظه على شيمه وأخلاقه حتى في أوقاته العصيبة كأوقات الحرب وغيرها من الأوقات التي يمر بها المرء في حياته ، يقول مخاطبا لسيف الدولة أنك تملك من المهابة الدرجة القصوى منها تلك المهابة جعلت الأعداء يهابونك ويخشون مواجهتك حتى قبل الإعداد للحرب ذاتها ، فلا يليق بك جمع الجيوش والأسلحة للحرب تكفي مهابتك فقط .
يشفق المتنبي على سيف الدولة إذ ألزم نفسه التفاني فوق حدود النفس في مطاردة الأعداء بعد الهزيمة. يروي المتنبي أن مكانة سيف الدولة أعظم بكثير من ذلك، وأن هزيمته للأعداء هي ما يكفيه للتفوق
كلما رميت جيشا فقد انكشفت هروبا، تعاملت معك في آثاره الهمجية
هزمهم في كل معركة، ولا يعنيك هؤلاء إذا انهزموا
تنص هذه العبارة على أنه لا ينبغي لـسيف الدولة مطاردة أعدائه بعد الهزيمة، بل يجب عليه التركيز على هزيمتهم في المعركة فقط، ولا يتعين عليه البحث عنهم والمطاردة، بل يجب عليه الخوض في المواجهة والتغلب عليهم، ولا يوجد أي مانع من هروبهم خوفًا منه ومن مواجهته .
يا أصدق الناس إلا في تعاملي، إنك الخصم وأنت المخاصم والحاكم
يخاطب المتنبي سيف الدولة قائلاً إنك تعتبر واحدًا من أكثر الناس عدلاً وحكمةً في التعامل مع الآخرين، ولكن معاملتك معي تجعل الأمر أكثر صعوبة، حيث أنك في نفس الوقت تعتبر الخصم والحكم. ولا يمكنني اللجوء إلى أي شخص آخر للشكوى سوى إليك، على الرغم من أنك أنت الخصم .
أعاذها من نظراتك الحقيقية… أن تحسب الدهون في آخرين مثلما تحسب فيها
فما فائدة الدنيا لأخي إذا كانت الأنوار والظلال متساوية بالنسبة له
يقول المتنبي مخاطبا لسيف الدولة أنك سيدي شديد الذكاء وتمتلك من الفطنة ما يجعلك تفرق بين كل الصادق والكاذب ، فلا يختلط عليك الأمر في عدم التفرقة بين الشحم والورم أي من يزيد وزنه لزيادة الشحوم والسمنة ومن يزداد وزنه بسبب الورم ، وفي ذلك تشبيه بليغ للمتنبي في إيصال فكرته ورأيه لسيف الدولة بذلك التشبيه البليغ لئلا يختلط عليه الأمر ويقارنه بغيره من الناس ويريده أيضا ألا يدمج بين النور والظلام ويقصد المتنبي بهذا المعاملة بينه وبين غيره من الشعراء الآخرين .
سيعلم الجميع ممن انضم إلى مجلسنا أنني أفضل ممن تسعى به الآن
أنا الذي رآه الأعمى أدبي، وسمعه كلماتي بئر أذنيه الصمم
أنا نائم مع عيني مغلقتين عن أمورها، ويسهر الناس على جمالها ويتميزون
بعد ذلك، تطرق المتنبي إلى الحديث عن نفسه وفخره به، حيث ذكر محاسنه أمام الحاضرين في بلاط سيف الدولة. وكانت تلك الأبيات تشتهر بها المتنبي في معظم قصائده، ولكنها حققت شهرة واسعة بسبب المبالغة التي احتوتها. فقد قال إن شعره استطاع أن يصل إلى آذان الذين لا يسمعون، بسبب تميزه. وهذه مبالغة واضحة بالفعل. وقال أيضا إنه حتى في لحظات نومه، يستطيع أن يجعل الجميع ينشغلون به وبشعره، وهم يسهرون في أماكنهم مشعوذين بشهرته وقصائده التي امتلأت بها الأرض شرقا وغربا .
في جهله، كان يضحك حتى جاءته يد الفطنة والفم
إذا رأيت نيوب الليث بارزة، فلا تظن أن الليث يبتسم
يقول المتنبي أنه لايجب على من حولي الاغترار بهدوئي أو سكوني فما هو إلا سكون أو هدوء يسبق العاصفة ولا يجب على الجميع أن يعتقدون أن ضحكي بمثابة جهل مني بعدم معرفة المحب من الصديق ، ويشبه نفسه بالأسد فلا يغتر الواشين أن أنياب الأسد تظهر لأجل الضحك بل تظهر أيضا في الحرب والتنكيل والغضب .