قراءة في رواية تلك العتمة الباهرة
تدور رواية العتمة الباهرة للكاتب المغربي الطاهر بنجلون، ضمن تصنيف أدب السجون، حيث تحكي قصة السجين والمعتقل عزيز وتسرد حكايات الموت والألم بأسلوب بديع. تستند الرواية إلى أحداث حقيقية مأخوذة من شهادة أحد معتقلي سجن “تزمامارت” الذي قضى عشرين عاما في المعتقل
تحكي لنا الرواية قصة ثمانية وخمسون سجينًا كانوا يقاومون الموت والقهر والنسيان حتى أصبحوا لا يمتٌْوا إلى البشر بصلة، فلقد فقدوا الكثير منهم في صراعهم مع الموت الذي كان يداهم المكان بين الفينة والأخرى كي يلتقط أحدًا منهم، حتى ازدحمت علينا الرواية بحكايا الموت ورائحته النفاذة.
تلخيص رواية تلك العتمة الباهرة
في هذه الرواية الرائعة، يقوم الكاتب المغربي الطاهر بن جلون بمحاكمة الأنظمة السياسية في الوطن العربي، كما يشكك وينتقد آليات القمع السياسي في بلده المغرب، وقد قام بتنفيذ كل هذه الانتقادات من خلال روايته “تلك العتمة الباهرة” التي اقتبست قصتها من شهادة أحد الذين كانوا محتجزين في سجن “تزمامارت” والذي قضى هذا الشخص 20 عاما محبوسا بين جدران هذا السجن
تتناول هذه القصة أحداثًا واقعية يرويها لنا بطل القصة المدعو بعزيز وهو الشخصية الرئيسية هنا، كما أنها تتناول مجموعة من القصص الثانوية عن مجموعة من رجال الجيش الذين تم توريطهم في محاولة إنقلاب الصخيرات على الملك الحسن الثاني في عام 1971، حيث قام قام أحد قادة الجيش الكبار بأخذ المعتقلين نحو قصر الصخيرات الملكي بغير علمهم عن الغاية التي خرجوا لأجلها فهم كانوا يظنون أنهم خرجوا في مناورة عسكرية فقط ومن هنا تم اعتقالهم ظلمًا بتهمة الانقلاب العسكري عام 1971.
خلال هذه العملية البشعة التي كانت مخططة مسبقا، كان عزيز حاضرا ولم يطلق رصاصة واحدة، على الرغم من سقوط جثث زملائه حوله. من شدة الصدمة، لم يظهر عزيز أي ردة فعل تذكر. تم القبض عليه وعلى المشاركين معه، سواء كانوا أبرياء غير عاينين لطبيعة هذه العملية أو متورطين. تم وضعهم في سجن تازمامارت، ووصف الراوي السجن قائلا: (كان السجن مثل قبر، طوله ثلاثة أمتار ونصف، وعرضه متر ونصف، وسقفه منخفض جدا، يتراوح ارتفاعه بين 150 و160 سنتيمترا. لم أتمكن من الوقوف فيه).
كان والد عزيز صديقا عزيزا للملك في ذلك الوقت، لذلك كان من المتوقع أن يقدم المساعدة لابنه، ولكن لسوء الحظ، قام بالتخلي عن ابنه عزيز ولم يسع لتحريره. وهنا، يروي الكاتب الطاهر بن جلون الواقع، مقدما مشاهد مرعبة عن مدى تحكم رجال السلطة في كل تفاصيل الحياة، ويصف كيف يمكن لخوف الإنسان من رجال السلطة والأجهزة الأمنية أن يصبح حالة من المرض والذعر، ويصف الحالة التي واجهها عزيز بعد إطلاق سراحه، حيث تم نقله إلى مصحة لتلقي العلاج حتى تتلاشى آثار الجروح والضعف. رأى عزيز وجهه في المرآة في غرفة طبيب الأسنان العسكري بعد خروجه من السجن، ولم يشاهد ملامح وجهه منذ ثماني عشرة سنة، ويصف كيف كان يحدق في تجاعيد وجهه وعينيه المتعبتين وملامحه المتغيرة في تلك اللحظات المرعبة
مقتطفات من رواية تلك العتمة الباهرة
يقول الكاتب في مقدمة روايته: في الوقت الحاضر، يتم تسمية بعض الكتب الأدبية في السير الذاتية داخل السجون بـ(رواية)، على الرغم من أن التعريف الرسمي للرواية هو “القصة الخيالية التي تعتمد على الأحداث الواقعية”. ومن الممكن أن يتم استخدام مصطلح الرواية لأسباب تجارية دون وجود أساس واقعي
يصف الكاتب شعورا عزيزا بالاستسلام لحلم اليقظة الذي يجلب ذكريات الماضي بشكل مبعثر ومتدفق، مع مزيج من روائح الاحتفال والسعادة العادية، والأشياء البسيطة التي يصعب العيش بدونها
يصف الكاتب بشاعة ما يشعر به عزيز وتأثير السجن عليه قائلًا: (لم تعد الحاجة لي للنظر إلى صورتي في المرآة، أو تصحيح تفاصيلي، أو التعرف على هويتي، أو التأكد من أنني لا زلت الشخص الذي كنت عليه. لقد فقدت هذه العادة، وهي لم تعد تهمني. فمن الذي يستفيد من رؤية نفسه في المرآة؟ يجب على الإنسان أن يحب نفسه قليلا حتى يتمكن من حب الآخرين. بالنسبة لي، ليس لدي أحد يحبني أو يكرهني
يقول عزيز أيضًا: على الرغم من كل شيء، لا يمكن تفسير ديمومتنا بأي معنى، إنها نتيجة خلل ما، فهي بالنسبة لبعض الناس تشير إلى احتضار مستمر، وبالنسبة للآخرين تشير إلى بقاء حياة قارة في سكنات بسيطة حيث يتم ابتلاع عقار ما. بغض النظر عن الأحداث المميزة، لقد وصلت أخيرا إلى مرحلة الأبدية، هنا حيث لا يوجد حقد بشري ولا تعب واستغلالهم الصغير، هكذا وصلت، أو على الأقل اعتقدت أنني وصلت، إلى وحدة سامية، ترفعني فوق الظلام وتبعدني عن المتجبرين على الكائنات الضعيفة. لم يعد هناك صدى للأنين، فقد تحولت جميع أجزاء جسدي إلى الصمت، إلى شكل من أشكال السكون التي ليست بالضرورة الراحة أو الموت
اقتباسات من رواية تلك العتمة الباهرة
- في العادة، تبدو الأمور العادية التي يعتاد عليها الإنسان تافهة، لكنها تصبح في الأزمنة العصيبة، غير عادية، وتكون من أهم ما يرغب فيه الإنسان في الحياة
- عشت في تلك اللحظة لحظات من الطمأنينة الغامرة، فلم يعد أي شيء يستطيع أن يؤذيني أو يحرمني من الخروج أو البقاء أو النجاة أو الرحيل، فأنا مطمئن بأنني سأكون من الناجين طالما أستطيع الصلاة والتواصل مع الخالق، لقد وصلت أخيرا إلى عتبة الأبدية، هناك حيث لا يوجد حقد البشر ولا ضيق صدورهم
- يشعر الشاعر بالحنين إلى بساطة الحياة وروتينها اليومي، مثل رائحة القهوة الصباحية والخبز المحمص ووثر الشراشف الدافئة، وصوت صراخ الأولاد في ملعب المدرسة ورقصة الدواري في سماءٍ صافية خلال عصرٍ ماضٍ. يدرك الشاعر أن الحياة تتألف من أمور بسيطة يومية، ولكنه يشعر بالخوف من فقدانها إلى الأبد
- يمكن أن تكون الحياة بسيطة وجميلة، حيث يتمثل الجمال في قدرتنا على الاستمتاع بالأشياء البسيطة مثل رفع ذراعنا والتمطي بمتعة أو المشي دون هدف محدد ومشاهدة الناس يعبرون أو الجلوس ببساطة خلف النافذة ومراقبة العالم من حولنا، وهو أمر جميل في حد ذاته
- يعتبر العالم شيئًا صغيرًا جدًا، وأنا أناضل ضد المشاعر التي تحيط بنا لجذبنا إلى بئر الكراهية، ولا أصلي من أجل نفسي فقط، ولا أرجو شيئًا، بل أنا أدفع لتخفيف معاناة البقاء
- ”بعض المواقف الغرائبية تحولت لتمنع إحساسنا بالحزن، فالحقيقة أن الحزن لم يكن شعورا سائدا بيننا، لم نشعر بالفرح ولا بالحزن، والأسى لم يصبنا، عندما يصاب أحدنا بالكآبة يهلك، لأن الشخص الحزين يحتاج دائما أن يكون في قلب الحياة، فالحزن لحظة في حياته وليس حالة دائمة، حتى عند مواجهة مأساة عنيفة هناك دائما وقت للنسيان يجعل الحزن يتلاشى، أما نحن، فلم يكن بمقدورنا ذلك