وضعية نقدية عن شعر الحنين الى الوطن
ظهور شعر الحنين للوطن
يعد شعر الحنين إلى الوطن والحنين إليه من الأغراض الشعرية المميزة، وقد برزت فيها أسماء عديدة من الشعراء القدماء والحديثين؛ حيث كانت بداية ظهور هذه الغاية الشعرية بطريقة واضحة عند شعراء الجاهلية بشكل عام، حيث كان ذكر الأطلال يمثل مادة لهذه الغاية الشعرية، ومن أمثلة شعر الحنين إلى الوطن في هذا العصر، يقول أمرؤ القيس:
نحن مستأجرون وغرباء هنا، والجميع هنا نسب لنا
بينما اتخذ الحنين إلى الوطن في الشعر في العصر العباسي ، شكلا أوسع مما كان عليه في الجاهلية ، حيث كانت بغداد تضم الكثير من الشعراء المغتربين عن بلادهم ، وأوطانهم ، مما أدى إلى ظهور شعراء شعر الحنين للوطن في هذه الحقبة ، ومن أمثلة الشعر في الحنين للوطن ، في العصر العباسي ، يقول أبو تمام :
ليس لليوم الأول توديعي ولا الثاني البين أكثر من شوقي وأحزاني
اترك الفراق، فقد يساعد الزمن في تحسين حالتي ويجعلني أكثر أملًا وحيوية
في ذلك الوقت، كان الشاعر يعاني من ألم الفراق عن وطنه وأرضه وعائلته وأحبابه، وقد فقد الأمل في العودة إلى وطنه مرة أخرى ورؤيته مرة أخرى. وهناك أيضا أقوال حول الوطن مثل أقوال محمود درويش حول الوطن.
عوامل ظهور شعر الحنين للوطن
تعود أسباب وظهور هذه الغرضة في شعر الشعراء المغتربين إلى الأوضاع السياسية والاجتماعية، مثلما حدث في قصيدة الحنين إلى الوطن لأحمد شوقي، التي كتبها خلال فترة نفيه في إسبانيا بسبب ميوله السياسية، فهذا مثال جيد على ذلك.
: “كان انتقال العرب من مكان لآخر بالفطرة وفقًا لاحتياجاتهم في العصر الجاهلي، بينما ظهر شعور الحنين إلى الوطن بين الأندلسيين نتيجة لعدة عوامل يمكن ذكرها في عدة نقاط
- تطورت شؤون الوطن العربي السياسية وتدهورت بسبب الاستعمار.
- يحدث صراع بين أعضاء المجتمع الأندلسي بسبب الفتنة بعد سقوط الخلافة الأموية.
- تعصب الملوك لطائفة معينة يؤدي إلى حدوث فوضى ومجاعات وزيادة فرص التعرض للضرائب.
نظرًا لهذه الأسباب والعوامل، كان من المتوقع أن ينتج الشعراء المهاجرون والمنفيون وحتى الموجودون في الأندلس قصائد تصف الم، والألم الذي ينتج عن البعد عن وطنهم، وتعبيرات الشوق والحنين إليه بكل ما يحمله من ذكريات الماضي.
مواضيع شعر الحنين للوطن
بسبب وجود شعور الحنين إلى الوطن نتيجة انتقال الشاعر بعيدا عن أرضه، اقتصرت قصائد الحنين إلى الوطن على ذكر المواضيع التالية
- يذكر الوطن بما فيه من شوق وحنين إلى أرضه.
- الشكوى من ألم الفراق عن الوطن والغربة عن أرضه.
- الحنين إلى العائلة والأحباب والأصدقاء.
- الحسرة والندم على فراق الوطن، وصعوبة العودة إليه مرة أخرى تشكل تحديًا كبيرًا.
يتمثل تصوير الفترات التي عاشها الشعراء في بلدانهم واستحضار أيامهم كما فعل أحمد شوقي في قصيدته `غربة وحنين`.
تتعدد مواضيع شعر الحنين للوطن، إلا أنها تبرز الجانب المؤلم والقاسي الذي عاشه الشعراء، وفيما يلي سوف نوضح هذه المواضيع بشكل أكثر تفصيلًا
وصف لحظات الوداع
اتجه الشعراء في شعر الغربة والحنين إلى الوطن، إلى تصوير مشاهد الوداع والبعد التي تُبعث الكآبة والحزن المُرير.
تميز الشعر الأندلسي بوجود مثل هذه المواضيع الشائعة، حيث قام الشعراء بوصف أيامهم وذكرياتهم في الوطن. ومن أمثلة الإبداع المتميز في هذا الجانب، قصيدة الشاعر الأندلسي ابن هانئ التي تصف لحظات الوداع عن أهله
يــا هَــلْ تَــرىَ ظَعْنــاً كمــا رُحِّلــتْ
فـــي الآل تحـــدوهُنَّ لـــي أَدمـــعٌ
رُحْـــنَ فحمَّلْـــن نَســـيم الصَّـــبا
كأنمـــــا جـــــرَّدتُم للنّـــــوى
غَـــدائِرُ المكمومـــة السُّـــحْق
في قصيدته، يصور الشاعر عبد الملك بن هذيل بن رزين مشهد الوداع، حيث ينزل الدمع بغزارة، ويشعر القلب بالألم والحزن، ويصعب عليه تحمل هذا الفراق، ويندم عليه بشدة، ويتحدث عن هذا الشعور والحالة النفسية التي يمر بها الشخص عند الوداع
دَع الــدَمْعَ يُغنــي الجَفْــنَ لَيْلَــةَ وَدّعــوا
سَروْا كاغْتِـداءِ الطَيـر، لا الصَّـبرُ بَعْـدَهُم
أَضــيِقُ بحَمْــلِ الفادحــاتِ مَــنَ النَــوى
وصف ما يعانيه المغترب في الغربة
قد يتكيف شاعر المغترب في البيئة الجديدة، وربما لا يتكيف، وفي هذه الحالة يزداد شعوره بالحنين والشكوى إلى وطنه، مما يجعله يغني بالألم والمعاناة التي يعانيها في غربته بعيدًا عن وطنه، كما يقول ابن حزم الأندلسي في قصيدته
أنــا الشَــمْسُ فــي جَــوِّ العُلــومِ مُنيــرةٌ
وَلَــوْ أننَّــي مِــنْ جانِــبِ الشَــرْقِ طــالِعٌ
وَلكــنَّ عَيْبــي أنَّ مطْلعــيَ الغَــرْبُ
اجتهد في استعادة ما فقدته من ذكريات النهب
ذكر أسباب الاغتراب
وهو من خصائص شعر الحنين للوطن ، حيث يصور الشاعر الأسباب ، والدوافع التي باعدت بينه ، وبين وطنه الحبيب ، وهناك العديد من الأسباب ، فمثلا الارتجال لكلب العلم ، ومثالا على ذلك الشاعر ، محمد بن محمد بن عبد االله الخولاني، والذي قام بالتنقل من مدينة إلى أخرى في المشرق العربي من أجـل طلـب العلم ، فيقول :
يـــا طالـــبَ العِلْـــم اجتْهِـــدْ إنّـــهُ
فـــالعِلْمُ يَـــذْكو قَـــدْرَ انْفاقِـــهِ
خَيـــرٌ مِـــنَ التالِـــد والطـــارِفِ
والمــــالُ إذا أنْفقتُــــهُ تــــالِفِ
البقاء على العهد
في الغربة والبعد عن الوطن، يشعر الشاعر بحبه العميق لوطنه وتقديره له، إذ كان الشعراء ينظمون قصائد تفيض بالحنين والشوق، حيث عهدوا الوطن بالوفاء والإخلاص، وكما يقول ابن خفاجة
يـــا أَهْـــلَ أَنْـــدلَسٍ اللهِ دَرُّكُـــم
مــا جَنّــة الخُلــدِ إلا فــي ديــارِكُمُ
مــاءٌ وظــلٌ وأنهــارٌ وأشــجارٌ
ولــو تَخَيَّــرتُ هــذا كُنْــتُ أختــارُ
سمات شعر الحنين للوطن
يتميز شعر الحنين إلى الوطن بعدة خصائص وسمات، وستُوضح هذه الخصائص فيما يأتي:
- يتسم الشعر بسهولة ألفاظه ومعانيه؛ إذ يستخدم الشعراء المعاني الواضحة التي تخلو من التعقيد والغرابة والوحشية، وغيرها من الصفات التي لا تنقص من فصاحة الكلم.
- يتميز شعر الشعراء الذين كتبوا عن الغربة والحنين للوطن بصدق العاطفة وغزارة المشاعر ورقة الحس والإفراط في التعبير، على سبيل المثال، يقول الشاعر إبراهيم الساحلي في قصيدته: “صدق العاطفة
وَمَــا لِزَمَــانٍ نــامَ مُسْــتَغرْقَ الكَــرَى
طَــوَاني الضَّــنا طَــيَّ السِّــجلِّ وشــفَّني
فَما هَبَّ حَتّـى سَـلَّ مـا كَـانَ سَـلَّما
فَلَــمْ يُبــق مِنّــي السُّــقْمُ إلاّ تَوَهُّمــا
- التجربة الذاتية ؛ والتي كانت حية وكاملة لدى شعراء الحنين للوطن ، حيث أتت في موضوع واحد لا تتعداه ، لما تعبر عن تجربة حقيقية عاناها الشاعر ، وتفاعل معها ، وعايشها ، واستولت على إحساسه ووجدانـه ، فيعبر عنها في عبارات جميلة عذبة ، وصور في غاية الصدق ، والإبداع ، كما قل الأمير يوسف الثالث ملك غرناطة في الحنين :
فــإن سُــدَّتِ الأَبْــوابُ بَيْنــي وبيــنكم
فبِــااللهِ يــا ريــحَ الجَنــوبِ تــأمَّلي
وَإنْ جُلْــتِ بــالحمراءِ فــاقري تحيَتــي
وَهُبّــي علــى القَصْــرِ الكَبيــرِ عَليلَــةً
- المزج بين الطبيعة والحنين ؛ فلم يخل شعر الحنين والتغني بجمال الطبيعية من الصلة العميقة ، التي تدي إلى التمازج والتداخل بينهمـا ، لقـد سحرت الطبيعة عقول الشعراء ، ودفعتهم إلى التغني بجمالها وروعتها ، وهم على ربوعها ، حيث ملاعب الصبا ، وموطن الذكريات ، فإذا ما ابتعدوا عنها ألهبت الغربة مشاعرهم.
- في بناء القصيدة، يولي شعراء الحنين للوطن اهتماما كبيرا لاختيار بدايات قصائدهم التي تدعو المتلقي إلى دخول عالمهم الشعري.