نبذة عن المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي
وُلِدَ المؤرخ البريطاني أرنولد جوزيف توينبي في 14 أبريل 1889 م في لندن، وتوفي في 22 أكتوبر 1975 م، ويُعتبر من بين أشهر المؤرخين في القرن العشرين، ومن أبرز أعماله موسوعته “دراسة التاريخ
نبذة عن حياته : قام أرنولد بتدريس اللغة اليونانية واللاتينية في أكسفورد، وشغل عدة مناصب بما في ذلك أستاذ الدراسات اليونانية والبيزنطية في جامعة لندن ومدير دائرة الدراسات في وزارة الخارجية البريطانية. كان أحد أهم المؤرخين الذين تناولوا دراسة الحاضرات بشكل شامل ومفصل خلال موسوعته التاريخية (دراسة التاريخ) التي استغرقت 41 عاما لإعدادها. وكان رأيه مختلفا عن معظم المؤرخين الذين كانوا يتناولون دراسة الدول القومية أو الأمم، حيث كان يرى أن الحضارات أو المجتمعات الأكثر انتشارا في الزمان والمكان هي التي تستحق الدراسة التاريخية .
وقام بتوضيح الفرق بين المجتمعات البدائية والحضارية ، فالحضارية هي الأقل عددا ، والتي شملت واحد وعشرين مجتمعا ، اندثر معظمها ، حتى أصبحت سبع حضارات فقط ، وهناك ست حضارات تمر بتور الإنحلال وهي الأُرثوذكسية المسيحية البيزنطية، والأُرثوذكسية الروسية، والإسلامية، والهندوكية، والصينية، والكورية-اليابانية؛ أمَّا السابعة، أي الحضارة الغربية، فمصيرها غير معروف حتَّى الآن .
تفسير توينبي للتاريخ : قام توينبي بشرح نشأة الحضارات الأولى (الحضارات المتقطعة) في نظريته الشهيرة (التحدي والاستجابة)، التي اقتبسها من علم النفس السلوكي وبالأخص من كارل يونغ، ويقول: إن الفرد الذي يتعرض لصدمة قد يفقد توازنه لفترة معينة، ثم قد يستجيب لها بنوعين من الاستجابة.
تتمثل الاستجابة الأولى لصدمة الماضي في النكوص إلى الماضي لاستعادته وتمسك الفرد به كتعويض عن واقعه الصعب، وبالتالي يصبح الفرد انطوائيا. أما الاستجابة الثانية، فتتمثل في قبول الصدمة والاعتراف بها، ثم محاولة التغلب عليها، وبالتالي يصبح الفرد متفائلا. ويعتبر هذا النوع من الاستجابة إيجابيا من وجهة نظر علم النفس. ولقد لاحظ هذا العالم أن هذه النظرية تنطبق على العرب أيضا، حيث يلجأون إلى الاسترجاع الى الماضي للدفاع عن أنفسهم في حال تعرضهم لصدمة .
تطبيق النظرية على نشأة الحضارات : يقول توينبي: إن المجتمعات البدائية تواجه تحديات بيئية أو بشرية معينة وتتجاوب معها بطرق مختلفة. فإنها تستجيب لهذه الحوافز بتفاعلات متباينة بين الجماعات المختلفة، حيث تكون بعضها سلبية وبعضها إيجابية. وهذا يفسر ظهور الحضارات الأولية في مناطق مثل وادي النيل ووادي الرافدين. ويضيف أيضا أن منطقة الشمال الأفروآسيوية، التي تشمل شمال إفريقيا وجنوب شبه الجزيرة العربية، كانت تتمتع بمناخ معتدل وأراض شاسعة وموارد مائية وفيرة، خلال نهاية الفترة الجليدية الأخيرة.
كما ذكرنا سابقا، كانت الشراذم البشرية المنتشرة تعيش حياة راضية على الصيد والقنص وجمع الثمار والبذور. ولكن حدث تغير مناخي تدريجي في الفترة المعتدلة أو الدفيئة الأخيرة التي نعيشها الآن، وسبب ذلك انحباس الأمطار وانتشار التصحر وجفاف الأنهار. وهذا الوضع يحدث أيضا في بعض المناطق في إفريقيا الوسطى، بحيث تتسع الصحراء الكبرى وتتمدد باستمرار .
وهذا هو الأسلوب الذي تعاملت به المجتمعات للتكيف مع هذا النمط بوسائل مختلفة؛ حيث اتجهت بعض القبائل نحو الاعتماد على الماء والكلأ ورعاية الحيوانات، في حين استمر الجزء الثاني في الحفاظ على نمط حياتهم البدائي حتى اليوم، وانتقل الجزء الثالث إلى دلتا النيل لمواجهة بيئة مختلفة وبدأوا في استغلالها ومواجهة تحدياتها وفقا لاحتياجاتهم، وهكذا تم اكتشاف الزراعة ونشأت الحضارة المصرية، وانتقلت مجموعات أخرى إلى شبه الجزيرة العربية وتحولت إلى قبائل بدوية، وكانت استجابتها سلبية .
أما تطور الحضارة فيقول توينبي أنها ترجع إلى الدافع الحيوي ، ويشمل الطاقة الداخلية للأفراد والمجتمع ، فيقول : أنَّ الشخصيَّة النامية أو الحضارة تسعى إلى أن تصيرَ هي نفسُها بيئةَ نفسها، وتحدِّيًا لنفسها، ومجالَ عمل لنفسها ، وبعبارةٍ أُخرى إنَّ مقياس النموّ هو التقدُّم في سبيل التحقيق الذاتيّ.” ويكون ذلك “عن طريق المُبدِعين من الأفراد، أو بواسطة الفئة القليلة من هؤلاء القادة المُلهَمين”، إذ تستجيبُ لهم الأكثريَّةُ عن طريق المُحاكاة الآليَّة mimesis التي تُمثِّلُ الطريقةَ الغالبة في عمليَّة الانقياد الاجتماعيّ ، وتـقود هذه المُحاكاةُ في الجماعة البدائيَّة إلى حركةٍ سلفية تـنزعُ إلى مُحاكاةِ القُدَماء ، بينما هي في المُجتمعات الحضاريَّة النامية حركةٌ تقدُّميَّة تُؤدِّي إلى مُحاكاة الطليعة الخلاَّقة .