من هي خيرونة الأندلسية
عبر التاريخ، كانت المرأة المغربية دائما عنصرا فعالا في تطور البلاد ورقيها. وأظهر عملها بشكل جلي في العصر الأول من الإسلام في المغرب، حيث تأسست جامعة القرويين بفضل فاطمة الفهرية، وشاركت المرأة في الأعمال السياسية والأدبية في العصر المرابطي عن طريق الأميرة الجميلة زينب النفزاوية، وفي العصر الموحدي، ساهمت المرأة المغربية بشكل كبير في النشاط الفكري والأدبي، حيث تم إدخال التعليم الإجباري للنساء وتوسيع نطاقه في كل المجالات. ويعد النساء المغربيات العالمات مثالا يحتذى به في العلم والأدب، منهن العالمة الكبيرة خيرونة الفاسية.
نبذة عن خيرونة الأندلسية
خيرونة الأندلسية، هي العالمة الفقيهة المتقنة لعلم العقائد، وهي التي نشرت هذا العلم بمدينة فاس، نزحت خيرونة إلى المغرب من الأندلس في العهد الموحدي، و لم يذكر المؤرخون متى ولدت وما أصلها ، لكن ذلك كان على وجه التقريب، في يوم ما من القرن السادس للهجرة ، أو الثاني عشر للميلاد.
كانت خيرونة عالمة دينية صالحة، تعلمت العلم وعملت فيه، وحضرت مجلس الإمام الكبير عثمان السلالجي، إمام أهل فاس في الأصول وعلم الاعتقاد. كما حرصت على حضور جلسات العلم إلى جانب حفظها للقرآن الكريم في وقت قصير، وأصبحت خبيرة في مختلف العلوم الشرعية، بما في ذلك الفقه والحديث والتفسير وأصول الدين. انتشرت شهرتها في المغرب بين العلماء والناس العاديين.
من هو أستاذ خيرونة الفاسية
كانت خيرونة تتردد على احد الأئمة الكبار في المغرب، ليعرفها أكثر على المذهب الأشعري ، كانت تعظمه وتوقره كثيراً، وحرصت على حضور مجالسه، و أصبحت من مريديه و تطلب العلم على يديه ، و قد طلبت من أستاذها أن يكتب لها في لوحها شيئاً تقرأه على ما يلزمها من العقيدة، فاستجاب لطلبها، وكان يكتب لها في لوحها فصلاً كلما سمح وقته بذلك، فإذا حفظته ومحته كتب لها لوحا ثانياً، فكان ذلك دأبها حتى اكتملت العقيدة وأصبحت ما يسمى بالبرهانية، فيما بعد، وانتشرت في كل أرجاء المغرب و وصل صيتها إلى كافة البلدان العربية.
كان أستاذها الجليل يدعى أبو عمرو عثمان بن عبد الله السلالجي، وهو من أهل جبل سليلجو بنواحي مدينة فاس في المغرب، وكان أبو عمرو أفقه العلماء في ذلك الوقت وأكثرهم علما، بالإضافة إلى أبنائه وأحفاده من بعده، وكان يلقب بإمام أهل المغرب في علم الاعتقاد.
الإمام السلالجي ولد في سنة 521 هـجرية، وانتقل إلى مدينة فاس في سن مبكرة لحفظ القرآن الكريم ودراسة الشريعة، والتحق بجامع القرويين ودرس كتبا كثيرة، مثل كتاب الإمام مالك بن أنس الموطأ والمدونة والرسالة، وتعمق في علم التوحيد وعلم الأصول والعقائد الإسلامية، وأصبح من العلماء الكبار، وتوفي في مدينة فاس ودفن فيها.
فضل خيرونة في تأليف البرهانية
تمتلك خيرونة الأندلسية مهارة في الفقه والتفكير في الأحكام العملية، وتفضل علم التصوف وأصبحت من الزاهدات العابدات، كما أنها اهتمت بشكل كبير بعلم العقيدة والكلام، وشاركت في نشر التوحيد على مذهب الأشعري بين النساء في فاس.
أرادت خيرونة الأندلسية أن تتعلّم من أستاذها الإمام السلالجي في مجال علم الكلام. ولم تخيب ظنها فيه، فكتب البرهانية خصيصًا من أجل خيرونة، دون أن يعلم أن عقيدتها ستصبح ذات شأن وستلعب دورًا بارزًا في انتشار المذهب الأشعري في المغرب كله.
عندما بدأ السلالجي في صياغة عقيدته، لم يكن ينوي تقديمها على شكل كتاب، فقد قدمها بتقسيمها إلى فصول منفردة، بدون مقدمة أو خطبة أو مقدمة. ومع تكامل هذه العقيدة، برزت تميزاتها واتسمت بتأليفها القوي. انتشرت هذه العقيدة وأصبحت مشهورة بالبرهانية، نظرا لاعتماد السلالجي على البرهان العقلي في إثبات المعتقدات الإيمانية، وقد وضح ذلك بالاستشهاد بالنصوص القرآنية والسنة.
تشير بعض المصادر التاريخية إلى أنه عندما استكملت هذه العقيدة ووصلت إلى يدي الحسن بن مومن، الذي كان تلميذا للإمام السلالجي، استشاره بشأن كتابة مقدمة لها وتنظيمها في فصول لتصبح كتابا. ولكن الأخير رفض طلبه قائلا: `لم أكتبها من أجل أن تصبح كتابا ينشر وينتشر، بل كتبتها لتكون مرجعية خاصة، وإذا شاء الله أن تنتشر بين الناس، فاتركها كما هي ولا تزيد عليها شيئا لتفسدها عن مقصدها.` فتركها ابن مومن كما هي، وأصبحت مرجعا لا غنى عنه في المذهب الأشعر.
بعد أن امتنع لسنوات طويلة عن التأليف والكتابة واكتفى بمجالسه العلمية، اضطرته خيارات الحياة إلى تغيير موقفه وتراجعه عن الهروب والخوف من التأليف والكتابة، وبذلك أصبحت خيارات الحياة في الأندلس هي التي دفعته إلى نشر ونشر العقيدة التي تمثل آرائه ومواقفه في جميع أنحاء البلاد.
كما قامت خيرونة بتعليم النساء ونشر هذه العقيدة بينهن، فقاموا بحفظها وتعلمها وشرحها كل حسب طاقته وإمكانياته”، بالتالي كان لخيرونة يداً في نشر التوحيد على مذهب الأشعري بين نساء المغرب، إسوة بأستاذها الشيخ السلالجي، و سرعان ما انتشرت العقيدة بين الرجال أيضا حتى أصبحت العقيدة الرسمية للدولة الموحدية.
عقيدة البرهانية
عقيدة البرهانية ألفها الشيخ عثمان السلالجي على طريقة المتكلمين ومباحثهم العقلية التي تحتاج إلى ذكاء كبير وحسن بديهة، هذه العقيدة الصغيرة من حيث الحجم، العظيمة من حيث المضمون، أثْرَتِ الساحة العقدية، كان لدقة عباراتها وبساطة أسلوبها، دور فعال في إقبال المغاربة رجالا و نساء عليها بكل فئاتهم وأعمارهم وتخصصاتهم ، فتعلموها و قاموا بنشرها، قسمها المؤلف إلى ثمانية عشر فصلاً ، ويمكن تقسيمها بحسب الفصول إلى خمسة أبواب و هي الطبيعيات و الإلهيات و النبوات و أحكام التكليف و الإمامة.
أصبحت البرهانية من الأشياء التي يدرسها الطلاب في الجوامع والمدارس، ويشرحها الكثير من العلماء، ويتم تداول كتب تشرحها في الأندلس والمغرب وتونس والجزائر وغيرها من البلدان.
وفاة خيرونة الفاسية
بعد أن عاشت السيدة العالمة خيرونة الفاسية حياة مليئة بالعلم والتدين والعطاء، وقدمت دروسا في علم العقيدة للنساء والرجال المغربيين وساهمت في تعليم وتثقيف المجتمع الموحد، رحلت عن هذه الحياة في سنة 594 هجرية، وتظل سيرتها العطرة حاضرة حتى يومنا هذا، ودفنت خارج باب الفتوح مقابل قبر الفقيه دراس بن إسماعيل بجانب معلمها السلالج.
لقد شهدت الحركة النسائية ، في مختلف مجالات الحياة نهضة غير مسبوقة في المغرب أثناء الحكم الموحدي على وجه الخصوص ، و سجلت المراة المغربية خلال تلك الفترة، تاريخا مشرفا عظيما من الإنجازات العلمية في مختلف مجالات الحياة ، و ستبقى خيرونة الفاسية من أهم العالمات المغربيات في تاريخ المغرب.