من هو عبد الرحمان المجذوب
ينحدر الشيخ عبد الرحمان المجذوب من أسرة مغربية كبيرة، معروفة بالتقوى و الصلاح كانت تقطن برباط عين الفطر بساحل بلدة أزمور، رحل هو ووالده إلى نواحي مدينة مكناس في طفولته وكان دائم التنقل بين المدن و القرى ينشر العلم والمعرفة، إلى أن حل به مرض عضال، يعتبر شخصية مغربية شهيرة و محبوبة حتى يومنا هذا، و أمثاله الشعبية متداولة في جميع أنحاء بلاد المغرب العربي.
أصله ونبذة عن طفولته
عبد الرحمن بن عياد بن يعقوب بن سلامة الصنهاجي، المعروف بالمجذوب، ولد في شهر رمضان عام 909 هـ – 1506 م، وأصله من قرية تيط الواقعة بالقرب من أزمور في شمال مرسى الجديدة على ساحل المحيط الأطلسي. نشأ في هذه القرية، ثم سافر إلى مكناس مع والده وهو طفل صغير، واستقر فيها في عام 1508 م، قبل أن ينتقل إلى القصر الكبير.
شخصية عبد الرحمان المجذوب
ظهر أثناء حكم الدولة السعدية في المغرب، كانت شخصية المجذوب مثيرة للجدل فهناك من يعتبره من أولياء الله الصالحين المتصوفين صاحب الكرامات، و هذا ما كان يقولوه مريدوه يهمه رضا الله سبحانه وتعالى، ويخلص في عبادته ولا يكترث لخلقه، و هناك من يربطه بالمجاذيب أي الفقراء و المساكين بل هناك منهم المجانين كذلك، فهو لم ينعزل في زاوية بين مريديه، بل كان ينتقد الأوضاع الاجتماعية و السياسية الخاطئة في البلاد، وينتقد تجار الدين و من يعبد المال، ويخضع للظلم و الاستبداد، كما كان يزور كافة البلدان المغربية وينشر الصلاح و العلم، فقد كان رحمه الله شخصية تجمع بين العلم و التصوف و مواجهة جبروت السلطة بحزم وشجاعة.
لقبه عامة الناس بالمجذوب لأنه كان صوفيا زاهدا في الدنيا، وكان غير مبال بالمال ولا الجاه، لباسه بالي و بسيط للغاية، وكان يداوم على إقامة الشعائر الدينية والتقرب من الله عز وجل طيلة فترات حياته، كان له أهل واكثر من زوجة وأولاد، وزاوية يطعم فيها الطعام للمقبلين عليها من الغرباء وأبناء السبيل و الفقراء وغير ذلك.
مسار المجذوب وتصوفه وعلمه
كان من أبرز الحكام في عهد الدولة السعدية، حيث تلقى تعليمه الأول في مدينة مكناس، ثم انتقل إلى مدينة فاس. لم تقدم المصادر التاريخية تفاصيل حول تعليمه، تصوفه أو الدرجة العلمية التي وصل إليها، ولكنه تعامل مع رجال التصوف منذ صغره. والده كان من أتباع التصوف، وتلقى المعرفة من الشيخ إبراهيم أفحام الزرهوني، الذي كان تلميذا للشيخ أحمد زروق. ويمثل بذلك جانبا من التصوف المعروف بـ `الجذب` الذي اشتهر به المتصوفة في القرن العاشر الهجري.
استفاد الشيخ عبد الرحمان و تلقى العلم من عدد من المشايخ نذكر منهم، الشيخ علي بن أحمد الصنهاجي الدوار، والشيخ أبو حفص عمر الخطاب دفين جبل زرهون، وعليه اعتمد في التربية وسلوك الطريق، والشيخ أبو عثمان سعيد بن أبي بكر، والشيخ أبو الرواين دفين مدينة مكناس، والشيخ أبو محمد عبد الحق الزليجي دفين جبل زرهون، والشيخ أبو زكريا يحيى بن علال البوخصيبي العمري دفين خارج باب الفتوح من فاس، والشيخ أبو عبد الله محمد جعران السفياني، و الشيخ أبو المحاسن رضي الله عنه.
كان رحمه الله زاهداً و صاحب كرامات، و شاعراً شعبياً عظيماً، فأقواله المأثورة وأشعاره صالحة لكل زمان و مكان وتعد تراثا مغربياً وعربياً و كان كثيرا ما يخبر بالشيء قبل أن يحدث، وكان يقف كل سنة بعرفات، وينصح الناس بالتمسك بالدين و الأخلاق الحميدة، و الوقوف في وجه المحتل المعتدي والدفاع عن الوطن.
من الكرامات الشهيرة لهذا الشيخ التي ردها مريدوه هي أن هناك رجلا ثريا كان يستهزئ به ويطلق عليه اسم المجذوم بدلا من المجذوب، أي المصاب بالجذام. في إحدى الليالي، وهو نائم، ظهر الشيخ عبد الرحمان له في المنام وكان بيده حقيبة من القصب، وقربها من وجهه ونفخ فيها أو نفث فيها، فانطلقت رذاذات منها تطايرت على وجهه. وعندما استيقظ، ظهرت آثار الجذام بوضوح على وجهه، ثم انتشرت هذه الآثار في جسمه بأكمله. بني له بيت من القصب خارج المدينة، وعندما يأتونه بالطعام، يضعونه في رأس قصبة طويلة ثم يمدونها إليه. وظل معزولا وحيدا حتى وفاته.
من كراماته أيضا أنه كان ذات مرة في زيارة مع أصحابه، فمروا بقطيع من البقر فقال لهم: خذوا ذلك العجل فأخذوه وذبحوه، فبينما هم كذلك، إذا جائت مالكة ذلك العجل تبحث عنه حتى وصلت إليهم، فسألتهم عنه وقالت لهم: والله كان هذا العجل هبة لسيدي عبد الرحمن المجذوب، فقالوا لها إن صاحبه قد أخذه بالفعل.. وأخبروها ما حدث.
رباعياته و أمثاله الشعبية
في أواسط القرن العاشر الهجري بدا عبد الرحمان المجذوب يردد مجموعة من الرباعيات الناتجة عن تجارب دنيوية كبيرة، و الاحتكاك مع خلق الله والوقوف على أحوالهم بمختلف طباعهم و أنواعهم، و هذا ما زاده شهرة وجعله يتمتع بتقدير عامة الناس، وأصبحوا يرددون أقواله وأمثاله لرقة اللفظ و سهولة الحفظ، حيث تعتبر هذه الرباعيات من التراث العربي العامي، وكثر مريدوه على رأسهم أبو المحاسن يوسف الفاسي، وأبو الحسن علي القنطري الأندلسي القصري، وعبد الرحمن بن رحو الجبلي من شرفاء جبل العلم، وأبو علي النيار الأندلسي وغيرهم.
لم يكن الشيخ سيدي عبد الرحمان مجاملا أو متملقا لحاكم أو إنسان، بل كان ينتقد السلطة بقسوة، كما يصف حال كل مدينة و ساكنتها، و يقول كل ما يدور في ذهنه دون تردد من اجل صالح البلاد و العباد، و لم تخلو أقوال المجذوب من الحكمة و الفائدة، و هذا ما جعل البعض يجمعونها في كتيبات لكي تبقى خالدة إلى الأبد.
من أجمل ما قال المجذوب عن نفسه:
عالجوني كأنني كتاب مجلد.. يعتقدون أنه ليس فيه مخزون.. وأنا كالمؤلف المتميز.. به العديد من المنافع.
وجاء في رباعيته الشهيرة كذلك:
تخَلْطَتْ تعني اختلطت، وولا بْغَاتْ تعني أرادت، وتستخدم لوصف التفاعل بين الأشخاص
تُعرف بـ `خزها`، أي الطفيليات، التي تعيش فوق مياه الماهية
– “يُطلق عليه رؤساء دون أهلية
هُمّا “هم” سبب خْــــــــــــلاها “ضياعها”
و عن تقلب الزمان من السعادة الى الشقاء قال الحكيم المجذوب:
يا الزمن الذي يكسرني من ذراعي، يا الغدار
يمكن للسلطان السابق أن يسقط، ويمكن للراعي السابق أن يجلس على كرسي الحكم.
و عن الحكمة و العلم والصبر يقول:
يصف البيت الشعري القياسي للشاعر العراقي أحمد مطر قيمة العمل الصالح والإنجازات الحقيقية.
تعبر الرباعية `مكتوب ربي نوديه..والصبر واجب علينا.. و اللي نحبه نخليه.. ياناس ما اعتاها غبينة` عن أن الصبر هو السبيل الوحيد الذي يتبعه الإنسان في الصعب.
و عن الغنى و الفقر نجده يقول:
ضْربتْ كفي لكفي
وخممتْ في الأرض ساعة
صبْت قلة الشي ترشي
وتْنوَّض من الجماعة
الشاشية تطْيَع الراس
الوجه تضويه الحسانة
المكْسِي يقْعُد مع الناس
العريان نوضوه من حدانا
وعن حرية التعبير يقول:
ذاك الوقت ذهب وانتهى “أهله” ، وجاء هذا الوقت بـ “بفأسه
– “كل من يتحدث بالحقيقة يتعرض للعقاب
انتقد عبد الرحمن المجذوب بشدة الأشخاص الذين يحكمون على الآخرينبناءً على وضعهم المادي ومظهرهم، وهذا هو السبب وراء مقولته الشهيرة
الشاشية هي “قبعة تقليدية” تُلبس على الرأس، ومَن يرتديها يصبح مُطيعًا، والحلاقة النظيفة تجعل الوجه يلمع، والمكسي هو من يرتدي ثياباً نظيفة ويجلس مع الناس، أما العريان فعلينا طرده من بيننا وعدم السماح له بالبقاء.
ولم يتم حماية النساء ولا تجار الدين من انتقاداته اللاذعة حيث قال عن المرأة:
كيدْ النساءْ كيدِين
ومَنْ كيدهم يا حْزوني
راكبة على ظهر السبع
وتقول الحذاء ياكولني
سوق النسا سوق مطيار
يا الداخل له رد بالك
يوريوك من الود قنطار
و يديو ليك راس مالك
و قال كذلك :
تذكر دائمًا أن الأمور التي تفسد العلاقات بين الأصدقاء هي النساء والمال.
وعن تجار الدين قال:
تركوا الدين وتعاونوا في شرب القهوة، ونزعوا الثوب ونقوا الجباه من تحته، وذلك يعني ترك الأمور الدينية والتركيز على الأمور الدنيوية.
و يقول في تقلب الدنيا وأحوالها:
يا صديقي، كن صبورًا واصبر على ما حدث لك
اضطر للانتظار بلا حراك حتى يشرق النهار
لا تُخمّم، ولا تُدَبّر، ولا تُرفد الهم دائمًا
الفلك لا يثبت ولا تبقى الدنيا ثابتة
لا تستسلم لضيق الحالة، اطلب الشفاء عند الله الذي يسعها
الشدة تهزم الجبناء، لكن لا تستطيع هزيمة الرجال
من بعض رباعياته الشهيرة كذلك:
من يامنك يا كحل الراس ما شينك بطبيعة، السن يضحك للسن والقلب فيه خديعة، كحل الراس المقصود هنا هو الإنسان، وفي هذا القول إشارة إلى من يظهر المودة في وجهك بينما يبطن الغدر والخديعة بداحخله. قال المجذوب في هذا البيت.. يامنك أي “يأمنك” بمعنى يضع ثقته فيك.. المعنى أنه يجب أن لا يغتر الإنسان بالظاهر ولا يثق بسهولة.
قال رجل بلا مال محبور في الحياة إنه لا يعني شيئا، المشرار يشبه الدلو الذي يصل إلى الماء ويعود بدون شيء. يقصد أنه من العادات الاحترام للأثرياء والترحيب بهم، بينما المشرار في اللهجة المغربية يشير إلى الفقير المعوز أو البخيل الذي لا ينفق على منزله وأسرته. ومثل المقتر يشبه الدلو المقعور الذي لا يحتفظ بالماء، فلا فائدة ولا خير فيه.
وفقًا لقول المجذوب، فإن سور الرمل لا يرتفع ولا يتعمق في أساسه، وينمو الناس ويولون اهتمامهم لأقرانهم. ومن المعروف أن البناء على الرمال غير فعال ولا يحقق الهدف، والمقصود هو أن في كثير من الأحيان لا تفيد هذه التربية المربي وإنما يقدر مجهوده وما قدمه عند الله.
يذكر هذا البيت الشعري الشهير بأن الأمان هو الأساس في الحياة وأن الثقة الزائدة في الناس قد تؤدي إلى الخسارة. فعندما تضع ثقتك في شخص ما، يجب عليك التأكد من مدى جدارته بهذه الثقة، وأن الإحسان وفعل الخير لا يضمنان بالضرورة العوض الجزيل، وقد يتحول الجميل إلى شيء قبيح وتندم عليه.
عندما يكون المرء صادقًا في نيته ويتقرب إلى الله، فلا يضره أحد من الناس، ويشير مصطلح `عجايبي` إلى الشخص الغريب الأطوار والمهرج، ولكن إذا كان المرء صادقًا مع الله، فلن يضره أحد من الناس.
ثم قال… ننصحك أن تتجنب تناول الخوخ بكثرة، فقد يسبب اضطرابًا في الجهاز الهضمي، والمعنى هنا هو أن الأشياء الثمينة والنفيسة إذا تم التعامل معها بشكل مفرط فقد تصبح مضرة.
وفاته و ضريحه
عاش الشيخ الجليل فترة في غرب المغرب، ثم مرض وهو في داره ببوزيري ببلاد مصمودة، وعندما شعر بقرب الموت، أمر مريديه بإعادته إلى مكناس، فتوفي وهم في الطريق بمجشر فرقاشة بجبل عوف، بين ورغة ووادي سبو، ليلة الجمعة التي تزامنت مع ليلة عيد الأضحى، ووصلوا به إلى مدينة مكناس ودفنوه.
توفي عبد الرحمن المجذوب في عام 1568 م – 976 هـ، ودفن في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة في عام 679 هـ بجوار ضريح السلطان المولى إسماعيل بمسافة قليلة، وما زال قبره موجودًا حتى الآن، ويعتبر مقصدًا للزوار ومحبي شخصيته ورباعياته الشهيرة.
مهرجانات و أعمال خلدت حياته
يستضيف مهرجان سيدي عبد الرحمان المجذوب للكلمة والحكمة سنويا في مدينة مكناس، ويهدف هذا المهرجان إلى الترويج للتراث الثقافي المغربي الغني، وتعزيز السياحة الثقافية والروحية في مكناس. ينظم المهرجان من قبل جمعية منتدى مكناس للثقافة والتنمية بالتعاون مع مجلس جهة فاس – مكناس، وبدعم من جماعة مكناس والمديرية الجهوية للثقافة. يتم تنظيم العروض والفعاليات في دار الثقافة `محمد المنوني` والمركز الثقافي `ميشيل جوبير`.
تم عرض شخصية عبد الرحمان المجذوب في التلفزيون من خلال مسلسل “المجذوب” الذي حقق شهرة واسعة ونجاحاً كبيراً منذ عرضه قبل سنوات، كما تم عرض العديد من المسرحيات التي تحكي قصة حياته وتاريخه وتفاصيل شخصيته المثيرة للجدل.