مراحل تطور التدوين التاريخي
قد مر بثلاث مراحل مترابطة ومتشابكة إلى حد كبير مأخوزه من علم الحديث أو غيرها من علوم العرب ، بينما يرجع الفضل في الحصول علي المادة التاريخية إلي عصرين : العصر الجاهلي ، والعصر الإسلامي ، حيث تتكون القصص التاريخية في الجاهلية من نوعين : الأول عبارة عن “قصص دينيه” وثنيه أو يهوديه أو مسيحيه ، ينقلها الرهبان .
أما النوع الثاني فهي روايات جماعية بدوية تروي من خلال النزاع القبلي ، وهي تعرف باسم «أيام العرب» ، ولا شك أن أخبار أيام العرب قديمة جداً ، ويؤكد أقدمية محاكاتها لأقدم الأقسام التاريخية في التوراة ، ومن هنا فقد انتشرت باعتبارها قصصاً مستقلة قبل أن تدخل في القصة التاريخية . وتبرز أهمية أخبار الأيام عند العرب في النثرا والشعر ؛ وهذا الأدب كان يعبر عن قصص لا تستند ولا تشير إلى مصادر مدونة ، ورغم ذلك فالأيام موجودة في عصور ما قبل الإسلام .
في الواقع، قصص الأيام تعود أساسا إلى الأدب أكثر من العودة إلى التاريخ؛ حيث كانت في الأصل تروى للمستمعين، وهذا لا ينفي وجود عناصر تاريخية فيها من حيث تسجيل أحداث كبرى ترتبط بجوانب معينة، ولكن هذه الأحداث تفتقر إلى الاستمرارية ودراسة الأسباب والنتائج التاريخية، بالإضافة إلى أنها لم تحدد الزمن بشكل محدد .
أما «الأنساب» فهي شكلاً من أشكال التعبير التاريخي التي تدعو لها الحاجة الاجتماعية القبلية للتعارف والتمايز ، رغم دلالاتها على وجود الشعور والحس التاريخي عند العرب ، فإن العناية بشجيرات النسب في عصور ما قبل الإسلام ، لم تأخذ في الاعتبار النواحي التاريخية ، ولم تهتم كذلك بعملية التدوين ، لأن المهتمين بالأنساب كانوا يحفظون معلوماتهم عن ظهراً قلب ، ولأن العرب قبل الإسلام لم يشعروا بأي ضعف في تقاليدهم النسبية ، وفي هذا الحال كان دور هذا العلم ضئيلاً في تشكيل الصورة الأدبية لعلم التاريخ الإسلامي .
التاريخ العربي بعد الإسلام
من عوامل ظهور التاريخ في الإسلام ، هو تقدم الشعوب باكتشاف شعورها التاريخي ، فهو الذي يضعها ويجعلها تحدد دورها في مسار التاريخ ؛ فبدأ الوعي التاريخي عند المسلمين مع نزول الوحي ، لأن الوحي وحده كان مصدر المعرفة الجديدة التي أخذها المسلمون كمعطى مسبق ودون تساؤل أو نقاش ، ومنها نشأت العلوم العربية بجوهرها الإسلامي ، وتجدرت بعد أن أصبح القرآن مكتوباً في مصاحف ، وبدأ جمع أحاديث الرسول “صلي الله عليه وسلم ” في كتب الصحاح ؛ وبالتالي وضعت الأمة في التاريخ ، وبدأت الحضارة الإسلامية في التكون . ولقد كان للمعرفة التاريخية التي استجابت للمعطيات الجديدة دوراً هام في جعل فكرة التاريخ محور النشاط والتطورات في حياة المجتمع العربي الإسلامي ؛ وهذه المعطيات تركت أثراً كبيراً لتبلور فكرة التاريخ التي يمكن رصدها على مستويين :
أولاً : يتعلق المستوى الفكري المتصل بالعقيدة الإسلامية بالعقيدة ذاتها
فالإسلام دين تاريخي يحمل في ذاته فكرة تاريخية عميقة ، ولقد أعطت العقيدة الإسلامية تصوراً واضحاً للكون منذ الخلق إلى يوم البعث ، وربطت بينهما بحلقات الأنبياء والرسل ، ولقد كان ظهور فكرة الاهتمام بالتاريخ العربي والإسلامي منذ الإسلام هو تلبية للحاجات والمشاعر الدينية ، ولقد كان من بين المؤرخين الأوائل القضاة والفقهاء والمحدثون ، وقد تعرض محمد عبدالغني حسن لهذه الناحية ، فقال :
“كان الغرض الأول من تدوين العلوم في الإسلام هو حفظ الشريعة “، ومن هنا جاء الاشتغال بعلم المغازي والسيره النبويه ، وقد جمع كثير من الفقهاء المسلمين بين الفقه والتاريخ كالطبري مثلاً ، الذي جمع بين المفسر والمؤرخ ، وشكل ظهور الرسول “صلي الله عليه وسلم ” خطاً في مسيرة التاريخ فهو خاتم الأنبياء ، وبرزخ بين عالمين ؛ عهد جديد نهائي للإنسانية ، ولقد إدرك عمر بن الخطاب “رضي الله عنه “هذه الحقيقة الإسلامية الكبرى وهي التي دفعته إلى اختيار الهجرة النبوية بدءاً للتاريخ ، وأخيراً لابد من الإشارة إلى أن القرآن الكريم قدم مادة تاريخية مهمة ، وكأن الغرض منها هو الموعظة والاقتضاء ، إلا أن الرغبة في معرفة تفاصيل ما أجمله القرآن الكريم من هذه القصص فتحت باباً من أبواب المعرفة الدينية ، ويعتبر التاريخ واحداً منها .
ثانياً : الحاجات الفكرية والروحية والثقافية : لقد شعر المسلمون ومنذ الوهلة الأولى ، بأن الإسلام كعقيدة تستحق التسجيل والتدوين لفهمه وإعطائه شأنه الإنساني ، وتجارب الأمة الإسلامية جديرة بأن تدون وتعرف تطور أحداثها وأمورها ، وتقارن مع تجارب الأمم الأخرى ، ولقد رسمت العقيدة الإسلامية لنفسها مساراً جديداً دخلت بها إلى طور مختلف ، من خلال ظهور دولة إسلامية على المسرح السياسي للعالم ، وتمكنت خلال فترة وجيزة من السيطرة على مساحات جغرافية واسعة تضم أعداداً كبيرة من البشر ، هذه الدولة تمكنت بحضارتها من إلغاء الدور الفعال للدول الكبرى التي سبقتها ، وهذا الحدث في حد ذاته كافي بأن يدفع إلى التحليل والتعليل والوصف وتقصي الأخبار لتقييمها ووضعها في موضعها من مسيرة الجنس البشري .
لعب الإخباريون دورًا رئيسيًا في رواية هذه النقلة الفكرية والسياسية وتسجيل أحداثها، ومنها كتب الأخبار الأولى وكتب التاريخ التي تلتها وغيرها من المصادر التي تعبر عن هذه الحاجة التاريخية .
ثالثا : الاحتياجات الواقعية الحياتية: لم يكن تاريخ الإسلام ولا الاحتياجات الفكرية والروحية كافية لظهور علم التاريخ بتلك الواسعة التي ظهر بها، لولا وجود احتياجات أخرى من نوع عملي وبعض هذه الاحتياجات دينية تشريعية تتعلق بتفسير القرآن الكريم وأحاديث الرسول “صلى الله عليه وسلم”، كما تجسدت في العمل السياسي والاقتصادي المتعلق بإدارة الدولة ونظامها المالي والقضائي، وكذلك بعناصر الدولة وتياراتها السياسية، ومن بين تلك الاحتياجات على سبيل المثال إلقاء الضوء على أسباب نزول القرآن وتفسيره، لمعرفة حدوده وأحكامه من خلال تاريخه، والاحتياج إلى معرفة سيرة الرسول “صلى الله عليه وسلم”، ومعرفة مشكلة الإمامة والخلافة، والحاجة إلى إثبات وتسجيل المعارك الكبرى “بدر، وأحد، واليرموك، والقادسية”، والحاجة أيضا إلى معرفة ظهور الفرق والمذاهب، وتحديد العلاقات السياسية والاجتماعية والمالية مع غير المسلمين في الدولة، استنادا إلى معاهدات الفتح ونصوص الشريعة الإسلامية .
رابعاً : العوامل المساعدة : وهي عوامل أسهمت بدورها في ترسيخ التدوين التاريخي وبلورته ، ويمكننا تلخيصها فيما يلي :
أ- وضع التقويم الهجري : أصبح التاريخ الإسلامي المبكر نقطة الارتكاز الرئيسية في الروايات والأبحاث التاريخية، ويعد العامل الأساسي في تنظيم تاريخ الإسلام .
ب ــ الاهتمام بالأنساب : عادت المشكلة، التي تمثلت في تنظيم الدواوين والعطاء وسكن القبائل وفرق الجيش على أساس قبلي، بعد أن وجدت حوافز جديدة لظهورها عند تدوين الدواوين ومشكلة العطاء .
ج- العلوم العربية : تسهم الدراسات في الشعر العربي والأدب واللغة في عملية تشكيل التاريخ وتسجيله، حيث تساهم في الكشف عن الكثير من الأخبار التي تساعد في بناء المادة التاريخية .
د- الحركة الشعوبية : تمنح العرب المميزات والمصالح والفوائد المادية بسبب تميزهم العرقي والسياسي والعسكري، وهذه الحالات أدت إلى ظهور حركة ذات صدى فكري وقومي، حيث تنبع جذورها من عوامل مادية واقتصصادية، وهذه العوامل دفعت بعض الأشخاص في بعض الأحيان إلى تشويه الصورة التي وضعها الدين والحكم الإسلامي .
ه ــ ظهور الورق : ساهمت صناعة الورق بشكل كبير في تسهيل عملية النقل والتدوين الفكري من الذاكرة إلى الشكل المكتوب .
ب – بدء تدوين التاريخ عند العرب : تم إنشاء علم التاريخ العربي للحفاظ على تراثين: تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم بما في ذلك غزواته وأفعاله وأقواله، وتاريخ القبائل العربية قبل الإسلام بما فيها حروبها والأيام العامة والأنساب، بالإضافة إلى البحث في التراث الشعري واللغوي لهذه القبائل .
تأثرت الميول التاريخية التي نشأت في المجتمع الإسلامي بدرجات متفاوتة بالعوامل التي ساعدت في عملية توثيق التاريخ. كما تأثرت بحاجات المجتمع الإسلامي الدينية والدنيوية، ونتيجة لذلك بدأ الاهتمام بدراسة “غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة”، وبدأ الاهتمام أيضا بدراسة حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من جوانبها المختلفة. اعتبر المهتمون بهذه الدراسات من بين المحدثين .
ومن هنا رأينا في القرن الأول الهجري ظهور بعض الرواة الإخباريين مثل : وهب بن منبه ” الذي توفى عام 114هـ ” ، وهو قصصي إخباري وليس من المحدثين ، ولكنه اعتنى بالإسرائيليات وأساطير العهود القديمة ، وأدخلها إلى المرويات الإسلامية من الرجال أمثال كعب الأحبارى ، وعبدالله بن سلام .
كانت الكتابة التاريخية جزءاً من أدب السيرة النبوية والغزوات والفتوحات في بدايات الحضارة العربية الإسلامية، وكانت أيضاً جزءاً من العلوم الإسلامية مثل الحديث والفقه والتفسير، وجميع هذه العلوم نشأت من الإسلام لفهم الدين وتعاليمه ونشره .
بالإضافة إلى العوامل الأخرى، تتأثر الأحداث السياسية بالعوامل التاريخية المتعلقة بالماضي، وخاصة سياسات الملوك السابقين وحروبهم ومعاركهم .
وخلاصة القول إن المعرفة التاريخية احتلت مكاناً مرموقاً في الثقافة العربية الإسلامية ، سواء لدى السياسي أو الأديب أو الفقيه أو الفيلسوف أو الإنسان العامي ، ومن هنا كان انتشار كتب التاريخ في المكتبات العامة التي ازدهرت في حقب عديدة من التاريخ الإسلامي ، وانتشارها جعل الثقافة التاريخية ثقافة شعبية بالمعنى الذي تحدث عنه ابن خلدون حين قال : ” إن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال ، وتشد إليه الركاب والرحال ، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال ، وتتنافس فيه الملوك والأقيال ، ويتساوى في فهمه العلماء والجهال” .
وبذلك، نلخص مراحل التدوين التاريخي التي تم ذكرها سابقًا، والتي مرت بثلاث مراحل تتوافق إلى حد كبير مع ما مر به علم الحديث أو غيره من علوم العرب، ولكن هذه المراحل ليست منفصلة بقدر ما هي مترابطة ومتشابكة
* المرحلة الأولى : تسمى المرحلة الأولى من عملية التدوين بمرحلة التدوين الشخصي، وتتميز بطابع شخصي يتعلق بالهدف من استخدام التدوين، وطابع عفوي وفضول علمي ومنفعة دينية واجتماعية، وقد بدأت عملية التدوين بنقل المعلومات عن طريق الشفاه، وعن طريق غيرها من السجلات الموجودة في الكتب والوثائق .
وقد رافقت هذه المرحلة وجود جمهور واسع من رواة التاريخ والأخبار والأنساب يحدثون بما يعرفونه مثل يزيد بن عقيل بن أبي طالب الأخ الأكبر لعلي ” كرم الله وجهه “، الذي كان يروي في مسجد المدينة عن أيام العرب ومعاركها ومثالب قريش ، وعمر بن خولة الراوية الفصيح ، ومكي بن سودة وغيرهم ، وقد كون هؤلاء ما يمكن أن نسميه بجمهور التاريخ ، والذي كان يشكل الإطار العام لاهتمامات الناس التاريخية .
تمتد هذه المرحلة حتى مطلع القرن الثاني الهجري، وكانت الخطوات الأولى تتخذ لنقل التاريخ من حالة المعرفة الشفهية إلى المعرفة المكتوبة. كان الاهتمام بالتدوين في هذه المرحلة يتركز بشكل خاص على مواضيع محددة من سيرة النبي. وظهر في هذه المرحلة عبد الله بن عباس، وعروة بن الزبير، وشرحبيل بن سعد، وابن شهاب الزهري. وفي هذه المرحلة أيضا زاد الاهتمام بالمعارف التاريخية بشكل واضح لدى الخلفاء الأمويين ابتداء من عهد معاوية، وطلبوا توثيقها من خلال الشهود الحية .
* المرحلة الثانية : استمر الإعلام خلال القرن الثاني تقريباً بنشر الأخبار المتنوعة حول الأحداث المختلفة، وغطى جميع المواضيع من خلال الأفواه والرواة، بالإضافة إلى التركيز على سيرة النبي .
ولكن الاهتمام بالأخبار التاريخية الأخرى صار أكثر وضوحاً بل واكب وزاحم الكثير من الاهتمام بالسيرة نفسها ، وذلك بسبب أن السيرة كانت قد استكملت المعارف عنها واستنفدت كافة المصادر والمعلومات المتعلقة بها ، بينما وجد الإخباريون ميادين أخرى لفعالياتهم الفكرية والثقافية ومواضيع أخرى تهم الناس سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ، وهكذا فقد اندفع رجال هذه الفترة من الإخباريين في تأليف العشرات من الكتب بل المئات ، واستقصت في مجموعها علي ما يهم المؤرخ معرفته من المعلومات عن مختلف مواضيع التاريخ الإسلامي خاصة تاريخ العرب الجاهلي وبعض تواريخ الأمم ، ومن بين هؤلاء الرجال أبو محنف ، والواقد ، وغيرهم .
* المرحلة الثالثة : هي مرحلة تدوين التاريخ بناءً على التسلسل الزمني، وجمع المواضيع المتتابعة في كتاب واحد، وتستند في فلسفتها العميقة على فكرتين رئيسيتين
أولاهما : يتم التحدث عن وحدة التاريخ الإسلامي وأهمية تجارب الأمة الإسلامية .
وثانيهما : تمتد وحدة تاريخ البشرية من خلال سلسلة من الأنبياء واستمرت هذه المرحلة حتى نهاية القرن الثالث، حيث استقر وتوطد فيهاعلم التاريخ الإسلامي ومناهجه في التدوين .
ونجد بداية ذلك لدى ابن إسحاق، مؤلف سيرة في منتصف القرن الثاني، وهو إسحاق بن إبراهيم، مؤلف كتاب `السير في الأخبار والحوادث`. وفي خطوة أخرى، نجد جميع السير والأخبار في كتاب واحد، كما تم تأليف أول كتاب في التاريخ استنادا إلى الطبقات لتراجم الرجال .
والجدير بالذكر هو أن صناعة الورق هي الأخرى قد أتاحت للحركة الثقافية الإسلامية الأداة الثورية في الفكر ، مما ساعد على التوسع في التدوين التاريخي ، كما ساعد الورق على جمع المؤلفات التاريخية الصغيرة ذات الموضوع الواحد في مجموعات تاريخية واسعة تضم مختلف المواضيع في نسق زمني متصل .
وهنا يجب أن نذكركم بمادة التدوين التاريخي : يقوم الصحفيون بتأليف مؤلفاتهم وتسجيلها وتلخيصها في النقاط التالية، مستلهمين الأفكار منها
* السير والغزوات .
يتضمن تاريخ الإسلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى العصور التي قامت بتدوينها
التاريخي .
* أخبار الجاهلية وخاصة في أيام العرب والأنساب والروايات الأدبية .
* أخبار العرب قبل الإسلام، وخاصة في اليمن والحجرة .
* تاريخ الأنبياء والأديان .
* تاريخ الفرس والرومان وملوكهم وأخبارهم وشعرهم .
* تاريخ الروم والأمم الأخرى .
* المدارس التاريخية :
أ ــ مدرسة المدينة : لقد استأثر الاهتمام الإسلامي بهذه المدرسة ، ولعل السبب هو أن المدينة كانت عاصمة للرسول”صلي الله عليه وسلم ” ، والخلفاء من بعده ومركز تجمع الصحابة والبلد الأساسي للدين الإسلامي ، ولعل ملامح النشأة التاريخية تبدو واضحة في هذه المدرسة وأولى طبقاتها ؛ أبان بن عثمان ، وعروة بن الزبير ، وشرحبيل بن سعد ، ووهب بن منبه ، وهؤلاء الأربعة شكلوا دعامة أولى في كتابة المغازي .
أبان بن عثمان بن عفان يمثل مرحلة انتقال بين دراسة الحديث ودراسة المغازي. نقل ابن هشام وابن سعد ما جمعه عروة بن الزبير من الأحاديث. واستخدم ابن إسحاق والواقدي ثم الطبري أخباره المختصرة التي تتضمن المغازي وقصص الردة. وشرحبيل بن سعد يقدم أخبارا عن أسماء بنت أبي بكر “رضي الله عنها” وعن الأشخاص الذين هاجروا إلى المدينة وشاركوا في غزوة أحد .
ويتبع هؤلاء طبقة ثانية يمثلها عبدالله بن أبي بكر بن حزم ، وعاصم بن عمرو بن قتادة ، ومحمد بن شهاب الزهري ، الذي أعد أول تسجيل لبدء حياة الرسول”صلي الله عليه وسلم ” ، وأخباره معتمده على روايات عروة ، كما أن كتاباته تطرقت لموضوعات تتصل بظهور الأحزاب السياسية والجدل بينها حول الفتنة والخلافة .
تختتم مدرسة المدينة بطبقة ثالثة تضم موسى بن عقبة ومعمر بن راشد ومحمد بن إسحاق، وهؤلاء التلاميذ كانوا يدرسون عند الزهري وإسحاق والواقدي، ومن ثم بدأت مرحلة جديدة متميزة في التدوين التاريخي العربي .
وإذا كان القرآن الكريم هو المصدر الأول لدراسة التاريخ يليه الحديث ، وكانت بدايات التأليف وثيقة الصلة بهذين المصدرين ، فإن الحركة التاريخية التي نشأت في المدينة اعتمدت على الرواية الشفوية كرواة الحديث ، والخبر التاريخي عمدته بالسماع من الموثوق بهم من الحفاظ ، وهذه هي طريقة الإسناد ، وكل جيل ينهل من الذي قبله .
ب – مدرسة العراق التاريخية والإخباريون الأوائل : وقد تلت المدرسة الأولى في المدينة ، وعرف الإخباريون الأوائل في الكوفة والبصرة كأبي مخنف لوط بن يحيى ، وهو إخباري من أهل الكوفة وله تأليف عن مقتل الحسين ، وأخذ الثأر ، وتأليف في الردة والفتوح والجمل وصفين ، وعوانة بن الحكم وهو إخباري كوفي كان على دراية بأخبار الفتوح مع علمه بالشعر والأنساب .
من إخباريي الكوفة، محمد بن السائب الكلبي، الذي اختص بدراسة الأنساب، وسيف بن عمر، وهو عراقي أخذ رواياته من شيوخ الكوفة، كما استفاد من روايات المدينة، وله كتاب عن الردة والفتوح .
ويأتي بعد الإخباريين الأوائل المؤرخون ، منهم الطبري الذي اهتم بالإسناد ، ثم تحررت الكتابة التاريخية من هذه الطريقة إلى الكتابة المرسلة ، وظهر هذا واضحاً عند اليعقوبي ، والمسعودي اللذين اكتفيا بالإشارة إلى المصادر مع دراسة نقدية في بعض الأحيان ، كما فعل المسعودي في “مروج الذهب” .
-4 ظهور كبار المؤرخين :
بعد انتهاء القرن الثالث الهجري، أصبح التاريخ معروفًا باسمه الحقيقي ومضمونه، ورُسمت معالمه التي لم تتغير إلا في الشكل الخارجي. ولقد تم تأسيس هذه المعالم على أيدي مؤرخين بارزين، وفيما يلي سنستعرض بعضًا منهم .
أ – ابن قتيبة الدينوري : هو أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الكوفي ، وعرف بالدينوري نسبة إلى دينوري الذي كان قاضياً فيها ، وكان عالماً باللغة والنحو والقرآن ومعانيه ، وتصل قائمة مؤلفاته إلى 46 مؤلفاً ، أبرزها هو : كتاب «عيون الأخبار» وكتاب «المعارف» الذي يجمع فيه بين فكرة التاريخ العلمي ، وفكرة الوحدة الثقافية في تاريخ العرب .
ابن قتيبة تميز بحس نقدي، حيث لم يقتصر على نقد المصادر فقط، بل تعدى ذلك إلى المعلومات المقدمة .
ب ــ البلاذري : هو أبو جعفر بن يحيى بن جابر البلاذري، وكان من الرجال البارزين في البلاط العباسي منذ عهد المتوكل حتى المعتز. وقد كان أحد المساهمين في نقل المعرفة من اللغة الفارسية إلى العربية. له العديد من المؤلفات، ولكن أشهرها هو كتاب `فتوح البلدان` وكتاب `أنساب الأشراف`. تميز البلاذري بأنه كان يقدم أكثر من رواية واحدة لنفس الحدث، وعندما يجمع المواد يعمل على تصنيفها وتنظيمها .
ج – أبو حنيفة الدينوري : أحمد بن داود، الذي هو من أصل فارسي، درس في البصرة والكوفة وكان متمكنًا في النحو واللغة، وكانت رواياته موثوقة فيما يحكيه ويرويه، ومن بين كتبه الأهم كتاب “الأخبار الطوال” الذي يحكي فيه عن فترات من تاريخ العالم .
د – اليعقوبي : هو أحمد بن أبي يعقوب إسحاق بن جعفر بن واضح الإخباري العباسي ، وهو مؤرخ وجغرافي كثير الأسفار من أهل بغداد له كتب متعددة منها «تاريخ اليعقوبي» وكتاب «البلدان». وقد تناول إلى جانب ذلك تاريخ الأنبياء والفرس والجاهلية ، وتواريخ الأمم الأخرى القديمة من الآشورية والبابلية.. ولقد اهتم بهذه التواريخ بالجانب الحضاري أكثر من اهتمامه بالجانب السياسي .
هـ – الطبري : هو محمد بن جرير بن يزيد ، وعلمه معروف في التاريخ الإسلامي وفي التفسير ، وبلغ به التدوين التاريخي نهاية عمر التكوين والنشأة ، ولد بمدينة آمل بطبرستان ، وقد بدت عليه علامات الذكاء منذ صغره ؛ إذ حفظ القرآن وهو ابن سبع سنوات ، كما ألمّ بعلوم القرآن والنحو والشعر واللغة والفقه ، وله عدة مؤلفات ، اشهرها كتاب «التفسير» وكتاب «التاريخ الكبير» المسمى بـ«تاريخ الرسل والملوك وأخبارهم» .