هناك مراحل مهمة في تاريخ المغرب، لم يهتم بها المغاربة والعرب الذين عاصروها كما يليق بها، ولم يقموا بتدوين أحداثها، وخاصة مرحلة الصراع المسلح المغربي الفرنسي، حيث واجهت قوات الاحتلال أسود جبال الأطلس، ومعركة الهري كانت واحدة من المواجهات والمعارك الحاسمة في تاريخ المغرب.
ما هي معركة الهري
تعتبر معركة `الهري` واحدة من أشهر المعارك التي خاضها المجاهدون المغاربة ضد سلطات الحماية خلال بدايات مرحلة المقاومة المسلحة. خاضت هذه المعركة قبائل زيان الأمازيغية المغربية ضد فرنسا المحتلة في ذلك الوقت في بعض مناطق المغرب، في يوم الجمعة 13 نوفمبر 1914، وذلك قرب قرية الهري التي تبعد عشرة كيلومترات جنوب مدينة خنيفرة. انتهت المعركة بانتصار المغاربة بقيادة الزعيم محمد بن حمو الزياني على القوات الفرنسية بقيادة الضابط لابردور الذي قتل في المعركة واستسلمت القوات.
دوافع معركة الهري
تزامنت هذه المعركة مع بداية الحرب العالمية الأولى في أغسطس 1914، حيث نجحت فرنسا في احتلال مدينة تازة وخضعت مدينة الخنيفرة في نفس العام. وبذلك ضمنت ممرها إلى الجزائر على الأقل. ثم قرر الاحتلال الفرنسي إخضاع جبال الأطلس الكبير والمتوسط والصغير بهدف حصار المقاومة الأمازيغية وحصارها برا وجوا وبحرا. وكان الهدف من ذلك فرض الأمن والطمأنينة في نفوس المستعمرين الأجانب الذين يستغلون المغرب ويستنزفون ثرواته الاقتصادية. وبالطبع، لن يتم ذلك إلا بالاستيلاء على جبال الأطلس المتوسط التي تتميز بأهميتها الجغرافية والاقتصادية على المستوى المائي والزراعي، حيث تعد ممرا استراتيجيا يفصل الشمال عن الجنوب والغرب عن الشرق. وتشكل تهديدا لوجود فرنسا في الجزائر ومدينة وجدة والمغرب الشرقي الجنوبي. كما تعتبر مصدرا للعديد من الأنهار والينابيع بفضل تساقط الثلوج الغزيرة في المنطقة، حيث تتحول إلى ينابيع ومصبات مائية تجري في العديد من الأنهار مثل نهر أم الربيع ونهر ملوية وغيرها. وبالتالي، تساهم في إنشاء السدود وتوليد الطاقة الكهربائية. جميع هذه العوامل زادت من طموحات فرنسا، وهذا هو أحد أسباب وقوع هذه المعركة. بدأت المعركة بعد احتلال ما كان يعرف باسم المغرب النافع في نظر الاستعمار، وبعد ربط المغرب الشرقي بالمغرب الغربي عبر مدينة تازة في عام 1914. وبالتالي، انتقلت أعين الإدارة الاستعمارية إلى منطقة جبال الأطلس المتوسط، وتحديدا إلى مدينة الخنيفرة لكسر المقاومة والسيطرة عليها. ورفضت المقاومة هذا الأمر بشكل قاطع، ومن هنا بدأت العمليات ضد القائد موحى وزملائه.
كيف حدثت معركة الهري
بعد معارك باسلة مع المحتل الفرنسي في منطقة تادلا إلى جانب الشجاع موحا أوسعيد، تراجع أوحمو الزياني إلى مدينة خنيفرة التي كان قائدا لها، فجمع الزيانيين ووحد القبائل الأمازيغية بالأطلس المتوسط وتحالف مع القبائل الأطلسية المجاورة، فكون جيشا قويا على الرغم من نقص الأسلحة والمؤن و العتاد.
كانت البداية في ٨ يونيو حين بدأت ردة الفعل للمقاومة، بعد أن قسم الزياني قواته إلى مجموعتين، الأولى تهاجم من جهة وادي إيفران ضد جيش كلوديل، والثانية بقيادة ابن عمه موحا تعترض جيش كروس وجيه دوبليسي. لم يكن لدى المجاهدين أسلحة إلا بقايا من الحروب القبلية أو قطع صغيرة من الأسلحة الحديثة التي تمكنوا من شرائها، وعلى الرغم من ذلك كانت المقاومة قوية على مدى خمسة أيام متتالية. تم شن هجوم عنيف على معسكر أوحمو الزياني، حيث بدأ في الساعة الثالثة صباحا، وتمت محاصرة المعسكر من أربعة جهات في نفس الوقت. تعرضت الخيام التي يقيم فيها الأبرياء للقذف، وأمر لافيردور الجنود بمهاجمة القبائل المحيطة بالقرية، بينما استغل الجنود الآخرون الفرصة لسرقة المواشي والماشية، واختطاف النساء وهم يعتقدون أنهم حققوا النصر بالفعل.
هذا في الوقت الذي كان فيه حشد آخر يقصد الجبل لتمشيطه من المقاومة، وبذلك تحولت لهري إلى جحيم من النيران، وسمعت أصوات الإنفجارات في كل المناطق المجاورة لها، وظن قائد الحملة الفرنسية ضد المغرب أن النصر حليفه، وأنه وضع الحد لمقاومة الزياني ورجاله خاصة بعد مجيء بعض الدواوير من الزيانيين يطلبون الأمان منه.
مقاومة الزياني و انتصاره في المعركة
عندما فشلت فرنسا في جذب موحا أوحمو وإغرائه، قررت القوات الفرنسية بقيادة الكولونيل هنريس أن تشن الحرب ضده وضد القبائل الأمازيغية، وخاصة قبيلة زيان المعروفة بالشجاعة والكرامة. يعترف الجنرال گيوم بذلك عندما يقول: “لا تكمن قوة الزيانيين في عددهم الكبير، بل تكمن في قدرتهم على الاستمرار في القتال بفضل شجاعتهم وتماسكهم الكبير، وبفضل مهارة فرسانهم. إنهم قوة قوية طوال سنوات القتال، ويتميزون أيضا بالحركة السريعة والقدرة والشجاعة في معاركهم…” يتضح لنا من هذا الاعتراف الصادر عن قائد القوات الأجنبية أن الزيانيين بقيادة موحا أوحمو كانوا من المقاومين الكبار، والمحاربين المحترفين في فنون الحرب والقتال، حيث يتميزون بالقوة والشجاعة، والتضحية في سبيل الله والاعتماد على إيمانهم القوي في حروبهم ضد الاحتلال الاستعماري.
” يؤكد ذلك عودة الزياني للقتال بعدما توقع الجميع انسحابه ومقاتليه، حيث استفاد من المعارك السابقة وتخلى عن العمليات العسكرية الكبيرة واكتفى بإنهاك الجيش الفرنسي وتهديد القوافل والهجوم على مؤخرة الجيش. وكان أسلوبه يشبه حرب العصابات التي تكلف الجيش الفرنسي الكثير من الخسائر. كما كان يتسلل في أوقات متأخرة من الليل إلى الثكنات ويذبح الحراس ويغادر مع قواته قبل أن يلاحظ أي شخص ذلك. ومن الصدفة الحسنة التي ساعدت المغاربة في تضييق الخناق على أعدائهم، إشهار الحرب على فرنسا من قبل ألمانيا في الحرب الأولى التي استمرت حتى 11 نوفمبر 1918. وأصيب قائد الحملة العسكرية الفرنسية بخيبة أمل حين فوجئ بردة فعل عنيفة من المقاومين، ودرك بعد ذلك أنه ألقى بنفسه وقواته في معركة لا يمكن الخروج منها، حيث كان رد المقاومة عنيفا خاصة عندما زاد عدد المقاومين بعد انضمام سائر القبائل الزيانية من أشقيرن، آيت إسحاق، تسكارت، آيت احند، آيت يحيى، آيت نوح، آيت بومزوغ، آيت خويا، آيت شارط وآيت بويشي إلى قيادة الزياني واتحادهم ضد المستعمر. وتم استخدام كل أساليب القتال من بنادق وخناجر وحتى الفؤوس، وتحمست جل هذه القبائل لمواجهة العدو والثأر لأنفسها ولزعيم المقاومة، وأبدوا روح قتالية عالية جعلت المستعمر الفرنسي يتكبد خسائر فادحة.
أظهرت الحرب هزيمة الفرنسيين بعد مقتل العديد من الجنود والضباط، مما دفع القادة الفرنسيين لطلب المزيد من التعزيزات. لكن موحا أو حمو لم يترك لهم فرصة الهروب، فقامت قواته بمطاردة القوات المنسحبة وحاصرتها من جميع الاتجاهات حتى تم قتل الكولونيل لافريدور في نقطة بوزال. هذا اضطر بقية جنوده للاستسلام والاستسلام لزعيم قبائل زيان، بعدما نجح المقاوم المغربي موحا أو حمو في التخلص من نصف القوات الفرنسية الاعتدائية. كان هناك 33 ضابطا قتلوا، و580 جنديا قتلوا، و176 جريحا، وتم ضبط ثلاثة مدافع كبيرة وعشر مدافع رشاشة وعدد كبير من البنادق. لمعرفة حجم الخسائر التي تكبدها المستعمر الفرنسي في هذه المعركة في هري، والتي وصفت بأنها واحدة من أكبر المقابر لقوات الاحتلال في المغرب.