ما معنى الإيثار والاستئثار
المقصود بـ الإيثار
لقد أودع الله سبحانه وتعالى في خلق الإنسان الكثير من ملكات الخير مثل ملكة الإيثار، وتعني تفضيل الآخرين على النفس، وتقديم حاجة الآخرين قبل النفس رغم الحاجة، وبذلك يؤثر الإنسان على نفسه مكاسب سواء كانت مادية أو معنوية، قال الله تعالى {ويؤثرون علىٰ أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: 9]
وعندما يتجاهل الإنسان حاجاته الشخصية ويفضل الآخرين على نفسه، يعكس ذلك على جميع من حوله بروح العطاء والتفاني. يتصف سلوكه بالتضحية المستمرة والإسهام الكامل، حتى لو كان ذلك يعني التضحية بحياته لصالح أولوية الآخرين ومصلحتهم، بالإضافة إلى بذل قصارى جهده لخدمة وطنه. تتميز هذه الصفة بالسخاء والعطاء الكبير، مما يجعل الإنسان محبوبا ومقدرا في كل مكان يذهب إليه، ولا تنحصر هذه الصفة في دائرة عائلته وأقربائه فقط، بل تمتد لجميع الناس، مما يزيد من الثقة والمحبة وتعزيز التواصل.
المقصود بـ الاستئثار
يعكس الاستئثار العكس التام للإيثار، فهي صفة سيئة يتحلى بها الإنسان إذا كان يتميز بها، حيث تعبر عن شدة حرص الفرد على الحصول على النصيب الأكبر في أي شيء يخضع لإرادته، وقد يصل ذلك إلى حد الاستبداد.
في الوقت الحالي، يعاني المجتمع في جميع المجالات من مشكلة الاستيلاء والطمع في امتلاك كل شيء، وهذا يتجاوز الاحتياجات الطبيعية والعادية للإنسان. فيصبح كل شيء حول الإنسان فرصة إما للاستيلاء عليه أو الاستفادة منه، وعندما يكون للشخص التأثير الكافي لتقديم كل شيء لشعبه، بما في ذلك التضحية بالحياة والحفاظ على كرامته، فإن المستفيد يكون مشغولا بنفسه ويحتكر أي شيء يكون في يده.
الإيثار مطلوب في جميع مجالات التعامل الاجتماعي، وقد أيد التاريخ ملاحم البطولة الأفذاذ الذين تميزوا بالإيثار، أنقذوا شعوبهم من الصعاب، قاموا بتضحيات عظيمة من أجل الدين والقيم، وقدموا أرواحهم في سبيل الله ودعم الدين، ولمن لم يكن له فرصة الانضمام إليهم في المواجهة، فليكن معهم بقلبه ولسانه وماله وكل ما يمتلكه من إمكانيات، وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مات ولم يحدث نفسه بالجهاد مات على شعبة من النفاق).
أعظم أنواع الإيثار
عندما يحتاج الإنسان ويعطى شيئًا لغيره، فإن ذلك يعتبر إيثارًا عظيمًا، وهذا الإيثار شرعي وقد يكون له أسباب طبيعية، مثل إيثار الأم على نفسها لأبنائها، وتحصل الأم على الأجر عند الله إذا كانت نيتها صادقة، فالأم تفضل راحة أبنائها على راحتها.
إذا كان الشخص يؤثر أكثر في العبادة والعلم والدين، فلا شك أن الأجر يكون أكبر عند إيثاره، ولذلك فإن إيثار النبي (صلى الله عليه وسلم) على النفس ليس كإيثار أي شخص آخر. ومن القصص التي حدثت: قال بريدة: وأثناء مشي رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، جاء رجل مع حماره وقال: يا رسول الله، اركب فتأخر الرجل. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “لا، أنت أحق بصدر دابتك منه.
ووهذه القواعد الشرعيةٌ: صاحب الدابة يكون أحق بصدرها، وبالمثل، صاحب المجلس يكون أحق بصدر المجلس. لذا يجب على الإنسان ألا يجلس على صدر الدابة أو صدر المجلس إلا بعد أن يطلب إذنا من صاحب الدابة أو صاحب المجلس. وقد تأخر هذا الصحابي ليجعل النبي (صلى الله عليه وسلم) يركب الدابة في الأمام، فقد قدم الصحابي الآخر بالموقع الأفضل، وهذا نوع من التفضيل بأن تفضل شخصا آخر بالموقع الأكثر راحة. فقال النبي في ذلك الوقت: `أنت لست أحق بصدر دابتك مني إلا إذا جعلته لي.` قال الصحابي: `إني قد جعلته لك.` فقد تفضل الصحابي بالنبي (صلى الله عليه وسلم)، ولكن النبي أكد أن الأحقية لا تسقط إلا بإذن من صاحب الشأن. وعندما قال الصحابي: `إني قد جعلته لك.`، ركب النبي (صلى الله عليه وسلم). [رواه أبو داود]. وقال الألباني: `حسن صحيح` في صحيح سنن أبي داود.
ندرك معنى الإيثار عندما نرى أن شخصا ما يفضل حاجته الشخصية لصالح حاجة شخص آخر، وقد قال الله تعالى في سورة الحشر “ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”، ومن الأدلة على هذا المعنى قوله تعالى في سورة الإنسان “ويطعمون الطعام على حبه”، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم “أفضل الصدقة جهد المقل” وروي ذلك عن أبو داود في صحيح سننه.
ويعتبر المال أكثر شئ يحبُّه الإنسان، فإذا قلنا: أي المنزلتين أفضل وأعلي؟ الصدقة جهد المقل أم يطعمون الطعام على حبه أو وآتى المال على حبه، تعتبر الصدقة جهد المقل؛ وذلك لأن هذا كل ما يمتلكه الإنسان، ولا يوجد أحد إلا وكان يحب المال، حتى الغني الذي يمتلك الملايين لو قام بإخراج مليونا فهو يحب هذا المال، وسوف يؤجر عليه، وذلك لأنه آتى المال على حبه وهو بالفعل يحب هذا الشيء، ولكن الذي يقوم بإعطاء الشيء وهو يحتاج وليس فقط يحبه ويحتاجه، فيكون أجره عند الله أكبر، حيث أن الأجور عند الله تتفاوت وذلك بحسب الحاجة إلى الشيء الذي تقوم بإيثارها، وكلما كان الشيء الذي تؤثر به أنت في حاجة له فإنك تؤجر عليه أجرا كبيرا، وعليه فإن هؤلاء الذين يتصدقون وهم يحبون ما يتصدقون به قد لا يكون لهم به حاجة ولا ضرورة، مما يعني أنهم يحبون المال الذي يتصدقون به، فلذلك لهم أجر يؤجرون عليه، ولكن الذي يؤثر المالي أو الشيء الذي يتصدق به وهو به خصاصته فذلك أجره أكبر عند الله.
على سبيل المثال، يعتبر سيدنا أبو بكر الصديق من أصحاب المقام الرفيع والمقام الأول لما قام به، حيث تصدق بماله كله، وعندما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: `ما أبقيت لأهلك`، فأجاب: `أبقيت لهم الله ورسوله` [رواه أبو داود 1680، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1678].
مواقف إيثار السلف
قد سار السلف رحمهم الله علي نهج النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، ومن ذلك: ما جاء في موطأ مالك من بلاغاته عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا فقيرا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت للمرأة التابعة لها: أعطيه إياه، فقالت المرأة: ليس لك ما تفطرين عليه، فقالت أعطيه إياه، ففعلت، وعندما أمسينا جاءت عائشة بمفاجأة من أهل البيت أو شخص يهديها، وكانت المفاجأة عبارة عن “أهدي شاة وكفنها”، فسألوا عن معنى “كفن الشاة”، وكانت العادة عند العرب أو بعض العرب أنهم إذا ذبحوا الشاة فإنهم يسلخونها ويغطونها بعجين البر ويكفنونها به، ثم يعلقونها في التنور، فلا يتسرب منها دهن الذبيحة إلا من خلال هذا الكفن، وكان ذلك من أطيب الطعام عندهم، وجاءت مفاجأة مماثلة لعائشة، فقالت المرأة: دعيني يا عائشة، فقالت لها: “كلي من هذا فهو خير من قرصك.” رواه مالك في موطأه (1810).
االله سبحانه وتعالى يعجل في الدنيا أحيانا لمن تصدق،فمن ترك شيئا لله لم يفقده، بل يخلف الله عليه ويعطيه أفضل وأحسن في الدنيا كما يشاء وقد روى عن الطبري: عن نافع أنَّ ابن عمر اشتكى واشتهى عنباً، اشتكى: مرض، واشتهى عنباً يعني: هو مريضٌ ويشتهي شيئاً، فاشتُري له عنقودُ عنبٍ بدرهم، فجاء مسكينٌ يسأل فقال: أعطوه إيَّاه، فخالف إنسانٌ فاشتراه بدرهمٍ ثُمَّ جاء به إلى ابن عمر فجاء مسكينٌ فسأل فقال: أعطوه إياه، ثُمَّ خالف إنسان فاشتراه بدرهمٍ، نفس العنقود يتبع المسكين فيقول له: خذ درهماً أحسن من العنقود العنب واشتر به ما شئت، فأراد السَّائل أن يرجع يطرق الباب ويطلع بعنقود ثُمَّ يشترى منه بدرهم صارت تجارة، فمنعه بعض آل عمر، فبقي العنقود عند ابن عمر، ولو كان ابن عمر قد عرف ذلك ما ذاق العنقود”[رواه الطبري].