كتاب عدالة السماء
- تأليف : محمود شيت الخطيب
- تصنيف الكتاب : أدبي
- عدد الصفحات : 79 صفحة
- الناشر : دار وحي القلم
- التوزيع : مكتبة وحي القلم
- الأخراج الفني و التنفيذ الطباعي : مؤسسة قرطاج / دمشق
- محتوى الكتاب : الكتاب يحتوي على العديد من القصص الجميلة المأخوذة من الواقع، وهو كتاب ذو طابع قديم إلى حد ما، ولكنه هادف وجميل وربما يعد واحدا من أجمل الكتب التي تحكي قصصا واقعية. وتحدث هذه القصص عن كيفية قدرة الله الواحد الأحد على تحديد خيارات الإنسان بأفضل الطرق التي يمكن أن يتبعها، والتي قد لا يحصل عليها حتى لو عاش أبدا، وذلك بقدرة الله سبحانه وتعالى. وكيفية أن الله يسهل الأمور البسيطة التي قد لا يتوقعها الإنسان، ويجلبها له على طبق من ذهب
قصص كتاب عدالة السماء
يحتوي الكتاب، كما ذكرت لكم، على قصص حقيقية تم اقتباسها من الواقع، وقام الكاتب بإعطاء عنوان مناسب لكل قصة، وهذه القصص هي:
عدالة السماء
كان رجلاً معدوماً, ولكنه كان سعيداً.
كان لديه عائلة تتألف من زوجة وخمسة أولاد وأختين ووالدة مسنة، وكان لديه محل يبيع فيه الخضروات: اليقطين والباذنجان والسلق والفجل والطماطم … الخ.
هذا حانوته في طريق فرعية، يبيع فيه سلعته لجيرانه من الفقراء، ولم يكن لديه المال الكافي ليستأجر حانوتا في موقع متميز أو يشتري به سلعة مميزة.
أما داره الخربة، فتسمى من باب المجاز دارا، وهي في حقيقتها غرفة واحدة محاطة بركام من الأنقاض، وفي هذه الغرفة ينام أفراد العائلة ويطبخون ويستحمون ولهم فيها مآرب أخرى.
عندما يعود الرجل إلى منزله بعد غروب الشمس ويحمل معه الخضار واللحم والخبز، يستقبله الأسرة بالفرح والتصفيق والأغاني والترحيب، ويتناولون من الطعام الذي يحمله بيده ويسارعون لإعداد العشاء في القدر.
لم يكن يقدم اللحم لأسرته يوميا، فإذا كان يحقق ربحا يوميا استطاع أن يشتري لحما، وإلا فعشاء عائلته كان يتكون من بقايا الخضروات التي اشتراها من محل البقالة.
كانت تلك العائلة تسكن بجوار حاكم المحكمة العليا، وكان الحاكم يتعاطف معها ويزورها بين الحين والآخر.
وهذا الحاكم كثيراً ما حدّثني عن عائلة جاره قائلاً: “لم أرَ في حياتي عائلة سعيدة مثل هذه العائلة, ولم أرَ فرحاً غامراً كالفرح الذي يشيع في العائلة عندما يعود رجلها من عملة مساء, وكنت كثيراً ما أحب أن أعيش وقتاً سعيداً بينها حين يصل جاري إلى داره فتستقبله العائلة كلها بالفرح والأمان , ثم يبدأ عملها الدائب في إعداد العشاء,
عندما ينضج الطعام، يبدأون بتناوله من وعاء كبير، وعند انتهائهم من عشائهم، يحمدون الله ويشكرونه، ويكثرون من حمده وشكره، ثم يذهبون إلى فراشهم بسعادة ورضا، لا يتمنون على الله سوى الستر والعافية وألا يجعلهم في حاجة إلى الإنسان.
في يوم من أيام الخريف، كانت العائلة تنتظر رجلها في المساء عند باب المنزل، وفجأة رأوا بعض رجال الشرطة يحملون نعشا. وعندما تبين الأمر للعائلة، اكتشفوا أن معيلهم الوحيد هو الشخص الذي يحمل على النعش.
أغلق متجره وتوجه إلى الجزار لشراء اللحم.
ذهب الخبار واشترى خبزا، وحمل بقايا خضاره من دكانه، وعندما أراد عبور الشارع دهسته سيارة طائشة، فتوفي الرجل على الفور، وتناثر ما كان معه من طعام.
تجمع الجيران حول النعش، وجمعوا بعض المال من سراتهم، وأنفقوه على تجهيز الجثة ببعض الأشياء التي جمعوها، وقدموا المال الزهيد المتبقي للعائلة، وفي صباح اليوم التالي حملوا فقيدهم الغالي إلى مثواه الأخير ودفنوه في التراب.
وفي سن الخامسة عشرة، كان أكبر أولاده يدرس في الصف الثاني في المدرسة المتوسطة الشرقية، ويستعد ليصبح موظفا صغيرا بعد تخرجه من المدرسة الإعدادية، حيث سيساعد أسرته بأجره القليل.
بعد يومين من وفاة والده، أنفق ما تم جمعه من أموال العائلة من قبل الجيران، وفي اليوم الثالث ذهب لمحل والده وبدأ يعمل في مهنة والده.
بدأ يعمل ليعيل أمه وأخوته الصغار وعمتيه وجدته، وترك المدرسة لآخر مرة.
كان يعود كل يوم بعد غروب الشمس كما كان يفعل والده. ولكن الابتسامات اختفت إلى الأبد والفرح مات. وكان الطعام الذي تتناوله العائلة ممزوجاً بالدموع.
لقد دفنت العائلة سعادتها مع فقيدها الحبيب
ومرت الأيام بثقل وبطء، ودار الزمن في مساره، فمضت ثلاث سنوات، وأحضر الابن الأكبر للتجنيد بعدما بلغ الثامنة عشرة من عمره..
واجتمعت العائلة لمناقشة الأمر، هل ينبغي على الابن الثاني ترك مدرسته وتولي متجر والده، ومتجر أخيه بعده، علما بأنه الآن في الصف الرابع بالمدرسة الإعدادية وباقي له سنة واحدة فقط لتخرجه؟ إذا لم يفعل ذلك، فمن سيعيل أسرته؟.
استقرت رأي العائلة على بيع الدار، ومع أن الخروج منها صعب كخروج الشاة من جلدها، فإنه لا يسمى إلا موتا أو جلدا.
والتحق الابن الكبير بالجندية في بلد مجاور يتدرب على استعمال السلاح، وكان معلم التدريب العسكري يلاحظه فيجد فيه ذهولا وانصرافا عن التدريب، فكان ينصحه تارة، ويعاقبه بالتعليم الإضافي تارة أخرى… دون جدوى.
كان حاضرا كالغائب أو غائبا كالحاضر، وكان جسمه فقط مع إخوانه الجنود في التدريب، ولكن عقله كان بعيدا… بعيدا هناك عند عائلته.
استدعاه ضابطه يوما، وسأله عن مشكلته، ففتح له قلبه وأخبره بمشكلته، فشعر الضابط بالحزن والأسى، وتوقف عن مطاردته في تدريبه المتقن.
عرض الضابط مشكلته على آمر سريته، فتم تعيينه في مطبخ الجنود ليقوم بغسل القدور وتقطيع اللحم وإشعال النار وتوزيع الطعام.
والدة الشخص كانت غير حاضرة بالفعل في هذه الحالة، إذ استعارت بعض الأموال من سماسرة بيع العقارات لتشتري العائلة، ورهنت العقار لدى السمسار، وعرضته للبيع، ولم تكن حاضرة بشكل فعال لدعم العائلة .
استمر عرض الدار التي ترغب في شرائها للمهتمين لعدة أيام، وأخيرًا وبعد مرور عشرين يومًا، تم بيع الدار بمبلغ أربعمائة دينار، ثم أمضت تسعة أيام في إجراءات حكومية روتينية لنقل الملكية إلى المالك الجديد.
والموعد شهر كامل ، قضت منه تسعة وعشرين يوماً في البيع ونقل ملكية الدار إلى المشتري الجديد ، وبقي يوم واحد على موعد إعطاء البدل النقدي عن ولدها ، وكان عليها أن تسافرإلى المدينة التي استقر فيها ولدها في الجندية مساء يوم التاسع والعشرين، لتسلم البدل النقدي صباح يوم الثلاثين ، فإذا تأخرت عن الموعد ساعة فلن يُقبل من ابنها البدل النقدي، وعليه أن يتم خدمة العلم كاملة وهي سنتان . وقصدت الأم مأوى السيارات التي تنقل الركاب من بلدتها إلى بلدة ولدها ، فوجدت السيارات ولم تجد الركاب .
كان الوقت قبل المغرب في يوم من أيام الصيف، ولقد انتظرت
ساعة في مأوى السيارات دون أن يحضر مسافر واحد ، وانتظرت على احر من الجمر ، وقد غابت الشمس ، والمسافة بين المدينتين حوالي أربعين ومئتي كيلو متر ، تقطع بالسيارات في ساعتين ونص الساعة فإذا لم تسافر ليلاً ضاع عليها الوقت ولن تصل مدينه ولدها إلا بعد ساعات من صباح اليوم التالي .
تم عرض فكرة على سائق سيارة لتأجير سيارته فقط لامرأة وسافرت المرأة على الفور بالسيارة ودفعت سعر الإيجار كاملاً للسائق، وتحركت السيارة في طريق جبلي ووعر، وخلال الرحلة تحدث السائق مع المرأة وعرف منها قصة بيع منزلها وقصة دفع المال لابنها .
تدخل الشيطان بين الرجل والمرأة، وقام بتخريب ضمير السائق حتى قرر تنفيذ خطة لسرقة أموال المرأة الفقيرة .
وفي إحدى منعطفات الطريق ، حيث يتمركز إلى جانب الطريق الأيمن واد صخري عميق ، قام السائق بفجأة بإيقاف سيارته ، وسحب المرأة بالقوة من السيارة إلى الخارج ، وجرها لمسافة عشرين مترا داخل الوادي العميق ، وهناك قام بطعن المرأة عدة طعنات بخنجره ، عندما ضعفت واعتقد أنها ماتت ، سلبها ممتلكاتها ، ثم عاد إلى سيارته مارا وترك المرأة وحيدة وملقاة في مكانها تنزف الدماء من جروحها ، وتتألم في بركة من الدماء .
وقصد المدينة التي كان متجهاً إليها ، فقد خشى أن يعود إلى المدينة التي خلفها وراءه ، لئلا ينكشف أمره ، إذ يعود إليها بدون مسافرين ، وقبل الوقت المعقول لذهابه وإيابه …! وعندما وصل إلى المدينة أوى إلى مأوى السيارات ، فزعم لأصحابه أن المسافرين الذين كانوا معه غادروا سيارته بعد عبور الجسر .
وجد السائق ركابًا ينتظرون السفر إلى البلدة التي غادروها في المساء، وسافر معهم على نفس الطريق بعد ذلك. وعندما وصل إلى المكان الذي ارتكب فيه جريمته الشنيعة، أوقف سيارته وادعى لركابه الذين كانوا معه أنه يحتاج إلى الذهاب إلى الحمام والعودة إليهم على الفور.
انحدر إلى الوادي العميق، متجهًا إلى مكان المرأة المصابة التي كانت على وشك الموت، وسمع صوت الأنين الذي خرج منها. وعندوصوله إلى النهر الصغير الذي تجمعت فيه المياه المتجمدة، رأى المرأة التي استطاعت النجاة وكانت تسبح في بركة الدم. وقال لها: “ملعونة! ألا تزالين على قيد الحياة حتى الآن!” وجمدت المرأة في مكانها، وانتظرت المزيد من الأحداث
الطعنات…!
ثم انحنى السائق نحو صخرة ضخمة ليضرب بها رأس المرأة المجروحة، ووضع يديه تحت الصخرة وصرخ صرخة عالم، هزت الوادي الصخري العميق، وترددت صداها في جنبات الوادي الخالية
ظهرت بعض الوحوش والأفاعي والهوام، وسمعها ركاب السيارة، فهرعوا لإنقاذهم.
كانت هناك حية سامة تحت الصخرة الضخمة التي أراد السائق المجرم رفعها ليقذف بها رأس المرأة الجريح، وعندما كان يحاول حمل الصخرة الثقيلة، لدغتها وسقطت بجوار المرأة، فصرخ وتألم
قام الركاب بحمل المرأة المصابة وأخذوا السائق معهم، وانتظروا على جانب الطريق حتى وصلت سيارة أخرى، ثم توقفوا السائق وطلبوا منه نقل المرأة والسائق إلى المستشفى الذي يتواجد في المدينة التي وُلدت فيها المرأة الجريحة .
وفي الطريق، فارق ذلك السائق المجرم الحياة متأثرا بالحادث القاتل .
عند وصولهم إلى المستشفى، التقى رجال الشرطة والمحققون العدليون، وتم تحديد القصة بالكامل، وتم استعادة المال الذي سرقه السائق من جيوب المرأة .
طلبت المرأة حضور ولدها، وحضر في الوقت الأخير من الليل
دخلت المرأة في غيبوبة عميقة، واعتقد الأطباء والممرضون أنها تعاني من حالة سكرات الموت… وبدأ الطبيب في نقل الدم إليها .
وفي ضحى اليوم التالي فتحت عينيها لتقول لولدها : أدفع النقود البديلة بسرعة، ثم أغلقت عينيها ودخلت في نوم عميق .
تم دفع الولد بدل نقدي وتم فصله من الجيش، وتحسنت صحة أمه يوماً بعد يوم حتى تماثلت للشفاء، حيث خرجت من المستشفى للعودة إلى أهلها ..
تناقلت الناس قصة نجاة المرأة وموت السائق وقصة الحية المنقذة شرقا وغربا، وأصبحت حديث الجميع. وكان الوادي الذي ارتكب السائق فيه جريمته موطنا غير مأهول بالسكان وخاليا من المياه والغطاء النباتي. وكانت سفوحه منحدرة وخطيرة، لذلك لا يمر به الناس ولا يستخدمونه، وحتى الرعاة لا يجدون فيه ما يفيد ماشيتهم، فأصبح موطنا آمنا للحيوانات المفترسة .
لما كانت المرأة الجريحة ستموت بالتأكيد، لولا عودة الجاني إليها مدفوعًا برغبته في الاطلاع، وبالقوة الخفية التي تقود حياته .
ولو أن سيارة قدمت من الاتجاه المعاكس، لنقلت والدته إليها بعيدًا عن مدينته التي يقضي فيها، ولم يكن ولدها مضطرًا لدفع البدل النقدي، وذلك لوجود الحيلولة دائمًا دون الحاجة للدفع
تضمنت عسكرية الخدمة تأخير دفع البدل النقدي في الوقت المحدد والمحدد بمبلغ مئة دينار في تلك الفترة، وكان ذلك بتدبير من الله العلي القدير .
قال الحاكم الذي هو جار لتلك العائلة : سمعتُ قصةَ جارتنا كما سمعَها الناس، فشاركتُ مع الجيران الآخرين في جمعِ ثمنِ دارِها، حتى تستعيدها من صاحبِها الجديد .
عندما سمع صاحب الدار الجديد قصتها، أعاد لها سند الدار وملكيتها .
وبقي المبلغ الذي جمعه لها الجيران مع ثلاثمائة دينار من أصل ثمن الدار ، فجددت بذلك المبلغ بناء الدار ، وأقبل الناس على حانوت ولدها ، يشترون سلعته ، ويتسابقون على معاونته .. وفي خلال سنة واحدة تضخم عملها ، وأقبلت عليه الدنيا ، فانتقل إلى حانوت كبير في شارع عام في موقع مرموق .
ومرّت السنون، وكل عام كان هناك بناء جديد في الدار ..
تخرج الأولاد من مدارسهم واحدًا تلو الآخر، فأصبح أحدهم مهندسًا والآخر طبيبًا والثالث ضابطًا في الجيش… ولم يعد طعامهم اليومي يتألف من الشاي والخبز والخضراوات، بل أصبح لديهم لحم في كل يوم مع أطباق شهية من الطعام والفتح من الله
عليهم أن يطلبوا بركة الله، وأن يحظوا برعايته، وأن يكونوا مثالاً للخلقالكريم بين الناس، وأن يتعاونوا في السراء والضراء .
وعلى ضفاف دجلة بالقرب من الجسر الكبير في بغداد، يوجد الآن الدار الجديدة التي انتقلت إليها العائلة الصابرة المحترمة في عام 1385 هـ، وقد تضاعف عدد العائلة ليصبح أربع عائلات بعد زواج الأبناء الكبار الثلاثة وإنجابهم، ومع ذلك، لا يزال رابط العائلة قويا، وتظل الأم سيدة المنزل دون إثارة أو إزعاج
لقد سمعت قصة هذه العائلة من صديقي الحاكم الكبير، ورغبت فيسماعها من شخص من أفرادها .
سألت الأم الابن الكبير السابقة الفقيرة الذي أصبح تاجرًا كبيرًا، أن يروي لها حديث أمها، فأجاب: “لماذا لا تستمعي لحديثها مباشرة منها؟.
في إحدى الليالي، كنت أتجول في منزلهم الفخم على ضفاف نهر دجلة، وأستمتع بمنظر انعكاس ضوء القمر على الماء الراكد الجميل، وأنا أستمع إلى أصوات النشيد البحري من السفن الشراعية والتجارية وصوت ركابها، وأنتظر انتهاء صلاة والدتي .
“وصلت الأم وهي ترتدي غلالة بيضاء على شعرها الأبيض، وكانت تشع نورًا في وجهها وتبتسم، وكانت تذكر اسم الله. وروت لي قصتها بالكامل، فسألتها: `كيف كان شعورك عندما تركك الجاني وحيدة تنزفين دماً في بطن الوادي العميق .
فقالت والإيمان الصادق يشع من كلماتها : وجهت كلامي إلى الله عز وجل، حيث قلت: يا جبار السماوات والأرض، أنت تعرف حالتي، فأرجو منك بقدرتك القادرة أن ترزقني بالأسباب اللازمة لدفع البدل النقدي عن ولدي، حتى يعود إلى أهله ويتمكن من إعالتهم. يا رب.
استجاب الله لدعائها ورد لها مالها وولدها، وانتقم لها من خصمها، وغير حال العائلة كلها إلى الأفضل .
تلك قصة من الواقع … ولكن حوادثها أغرب من الخيال … وسيقول بعض الناس : أن ما حدث صدفة … وليقل هؤلاء ما يقولون … ولكنني لا أشك في أن ما حدث من تدبير العلي القدير … فليس من المعقول أن يحدث كل ذلك صدفة … ولو أراد الإنسان أن يوقت حوادث هذه القصة مثل هذا التوقيت الدقيق ، لعجز .
ينام الناس ويغفلون، ولكن الله وحده لا يغفل ولا ينام، وكل دابة في الأرض على الله رزقها، وليس من دابة يغفل عن رزقها، حتى النمل في صخرة قاسية وسط البحر. فكيف يمكن لله أن ينسى رزق الأرامل والأيتام؟! والله هو الأحق أن يخشاه الناس، وهو يمهل ولا يهمل .
دعوة المظلوم لا يوجد بينها وبين الله حجاب .
و بشر القاتل بالقتل
كان ثلاثة رجال من الفلاحين يسيرون ليلاً من قرية تقع على نهر الخازر، وهو يقع في منتصف الطريق بين الموصل وعقرة، وكانوا في طريقهم إلى قرية أخرى في منطقة عقرة. كانوا يحملون بعض الدواب والماشية وبعض المال .
كان أهلهم في قريتهم الجبلية ينتظرون وصولهم إلى القرية في منتصف الليل، ولكنهم لم يصلوا إليها في الوقت المتفق عليه .
وصباح اليوم التالي، لم يصل الرجال الثلاثة إلى القرية، فأخبر مختار القرية عن ذلك، وركب حصانه وتوجه إلى (عقرة) وأبلغ الشرطة هناك بالحادثة .
انطلق مفوض الشرطة ومعه بعض رجاله في سيارة مسلحة، وساروا على طريق عقرة نهر الخازر المبلطة، وكانوا يتوقفون في القرى للاستفسار عن الرجال المفقودين .
استمرت عملية تفتيش الشرطة لمدة خمس ساعات حتى عثروا على الجثث
الرجال الثلاثة فقدوا دوابهم وماشيتهم ونقودهم في واد سحيق محترق .
بدأت الشرطة في مطاردة الجناة، وبعد عدة أيام عثروا على بعض الحيوانات والمواشي التي تعود للثلاثة الذين قتلوا في حوزة أخوين شقيقين حيث تم القبض عليهما .
تم إجراء تحقيق مع المتهمين اللذين كانا معروفين بارتكاب جرائم القتل والسرقة والنهب، وبعد التحقيق الدقيق، تم تقديمهما إلى المحكمة العسكرية العرفية .
تشير السجلات السابقة للمتهمين إلى أنهما هما اللذان ارتكبا تلك الجريمة الشنيعة .
اكتشفت الشرطة وجود جزء من الحيوانات المفترسة والماشية الميتة لدى المشتبه بهما، وهذا يشير إلى ارتكابهما لجريمة قتل
عندما وقع الاثنان في فخ الشرطة، ازداد عدد الشهود عليهما، واعترف الشخص الصغير بأنه ارتكب جريمة القتل بينما أصر الآخر على الإنكار .
قام قضاة المحكمة العسكرية العرفية بمناقشة أمر المتهمين، وتوصل الأغلبية إلى أن الأخ الأصغر اعترف بارتكاب الجريمة بعد أن رأى أن الأدلة ضده واضحة ولا يمكن التخلص منها، فقرر أن يتحمل العقاب وحده عن طريق الاعتراف ويخلي شقيقه من العقاب.
أصدرت المحكمة حكمًا بالإعدام العلني شنقًا حتى الموت بحق الشقيقين، وأُرسِلَت الدعوى إلى المراجع العليا للتصديق عليها .
كانت جريمة بشعة حدثًا مروعًا أثار انزعاج واستياء الرأي العام، وتحدث الناس عنها في كل مكان، وحرصت السلطات على تهدئة الناس وتطمينهم وإدخال الأمن إلى نفوسهم، لذا تم الحكم بسرعة وتنفيذ الحكم على الشقيقين في ميدان عام مزدحم بالسكان .
نشرت الصحف خبر تأكيد الحكم على الأخوين وبثت المحطات الإذاعية الخبر، وتداول الناس موعد ومكان تنفيذ الحكم عليهما، وقد حضر الناس من كل حدب وصوب ليشهدوا مصير الجانيين .
في نوفمبر عام 1952، وفي وقت متأخر من فصل الخريف، كان المسؤولون في السجن يقيمون مشنقة خشبية في ساحة باب الطوب في مدينة الموصل. انتشر خبر حكم الإعدام على المجرمين صباح اليوم التالي، وسمع به الناس وعرفوا بالتفاصيل .
قررت بحزم أن أشهد تنفيذ حكم الإعدام بحقهما، وحرصت على عدم فوت تلك الفرصة، حيث أن الجريمة أثرت بشدة عليّ .
في ليلة التنفيذ، كنت أسهر مع بعض الضباط في النادي العسكري، وفجأة ظهر جندي من جنود الانضباط العسكري (الشرطة)
قامت السلطة العسكرية بتسليمي رسالة رسمية من آمر موقع الموصل، وعند قراءة الرسالة، علمت برغبة آمر الموقع في أن أحضر ممثلًا عن الجهة العسكرية إلى السجن لإعلام المجرمين بموعد تنفيذ حكم الإعدام ومكانه .
في السجن، عندما حضرت لتبليغ المجرمين، وجدت ممثلًا عن المحكمة العسكرية العرفية، ومدير السجن، وطبيبًا، وممثلًا عن المحاكم المدنية، وممثلًا عن الإدارة المحلية، ووجدت ملفًا ضخمًا للدعوى يحتوي على أوراق بيضاء وحمراء وصفراء… إلخ.
كانت الإجراءات المتبعة تقوم على حضور ممثلين عن الجهات العسكرية والمحاكم المدنية والإدارة المحلية وطبيب عسكري، حيث يوقع كل واحد منهم على تلك الأوراق بعد إبلاغهم بقرار تنفيذ حكم الإعدام. وكانت الإجراءات الشكلية تتم كالمعتاد .
ذهب كل ممثلي تلك الدوائر الرسمية وملف الدعوى الضخم التي تحملوها إلى زنزانة المجرمين، حيث وجدوا شيخًا من شيوخ الدين ينتظرهم .
فتح السجان باب الزنزانة، وجد الشابان المسجونين قويين ومفتولي العضلات ومتماسكين في أعصابهما لأقصى الحدود .
عندما دخلنا الزنزانة، استقبلنا السجينان برحابة صدر وأريحية، كما لو أنهما صاحبا المنزل وكأننا ضيوف عليهما .
كانا هاشين باشين هادئين غير متذمرين، وكانا مؤدبين للغاية
الأدب لم يهتم بالأمر كله، وكانا (طبيعيين) حتى قد تحرجنا من قراءة الحكم عليهما وبقينا واجمين صامتين لفترة من الزمن دون أن نعرف كيف نبدأ الحديث
أخيرا، تمت قراءة الحكم عليهما، وأبلغا بأن الإعدام سيتم تنفيذه صباح الغد علنا في ساحة (باب الطوب)… فاستمعا لكل ذلك بشجاعة وصبر عجيبين
سألناهما كالمعتاد: ماذا تريدان؟ وهل لديكما ما تقولان؟
قالا: لا نرغب في أي شيء سوى الشاي واثنين من الدخائن (1)، وقالوا: نرغب في رحمة الله ومغفرته، ولا نرغب في أي شيء من البشر.
وابتسما وشجع كل منهما الآخر.
قال الصغير للكبير: ((لقد ارتكبت أنا الجريمة، فشاركتني أنت في العقاب، وما كنت أريد لك هذا المصير ظلما وعدوانا!!))
و قال الكبير للصغير:((لا تحزن! صحيح أنني لم أشترك معك في قتل الرجال الثلاثة، ولكنني قتلت أشخاصا آخرين كثيرا، فأنا اليوم أسدد ما عليه من ديون))
وسرد الأخ الصغير قصته كاملة للحضور، وقد قال بشكل عام: إنني اليوم أقرب ما أكون إلى الله، وسأكون غدا ضيفه، إن شاء الله
أخي لم يشارك في قتل الرجال الثلاثة ولم يشهد على مقتلهم.
لقد كنت وحيدا ومعي بندقيتي في حفرة قرب الطريق، عندما مروا بي الرجال الثلاثة مع دوابهم وماشيتهم، استغللت هذه الفرصة المواتية وهربت لكي لا يفلت هذا الصيد الثمين من يدي.
كنت أراهم و لا يرونني فصوبت بندقيتي على رأس أحدهم , ثم أطلقت النار فأرديته قتيلاً , و ارتبك الاثنان الباقيان و امتدا على الأرض بالقرب من مكمني , فأطلقت النار على الثاني , فأرديته قتيلاً , و نهض الثالث من مكانه و هرب متعثراً , فعاجلته برصاصة استقرت في رأسه فمات على الفور.
تم جمع الحيوانات والماشية وتفتيش جيوب القتلى، ونهب ما لديهم من أموال، ثم تم قيادة الحيوانات والماشية إلى وادي قريب من الطريق وربطهم بالحبال، ثم عادت إلى الجثث في محاولة لإبعادها عن الطريق.
سحبت الجثث إلى وسط الوادي، لأنني خفت أن يشاهدهم أحد المارة ويخبر أهل القرية عن الحادث، حيث سيقوم سكانها بالقبض على الحيوانات والماشية قبل أن أتمكن من الهروب بها والتخطيط لأمري .
عندما تم وضع الجثث في أسفل الوادي، تم جمع بعض الأخشاب والنباتات اليابسة ووضعها فوق الجثث، ثم أشعلت النيران فيها لإخفاء آثار الجريمة إلى الأبد.
وكان وادي الموت مروعا، وكانت النيران تأكل الجثث دون أن يراها أحد، وكانت أقرب القرى إلى ذلك الوادي تبعد ثلاثة أميال .
قادت الحيوانات والماشية إلى قريتي آمنة ومطمئنة، ووصلت إليهما في منتصف الليل، وربطتها بالقرب من القرية، ثم ذهبت إلى شقيقي وأخبرته بالحادث، فتوجهنا سويا إلى مكان الحيوانات والماشية، واستقنيناها بعيدا وأخفيناها في جبال الشعاب .
عندما علم رجال الشرطة بالحادث، قاموا بتتبع آثار الدماء وعثروا على بقايا الجثث، ثم تمكنوا بمهارة من العثور عليها في أعماق الوديان .
عندما قام رجال الشرطة بالقبض علينا، كنا نائمين بالقرب من عين من عيون الماء تحت شجرة بلوط ضخمة، وإذا كنا مستيقظين، لم يكن بإمكان أي قوة في العالم أن تقبض علينا .
وخلال المحاكمة، أفاد الشهود بسماع طلقات نارية في ليلة الجريمة، وأفاد أهل القرية بأنهم لم يروا لي ولشقيقي منذ تلك الليلة حتى تم القبض علينا .
نظرا لأن التعرض للغبار ليس ضارا كما يعتقد الناس عموما، فإن تعرض الأطفال للغبار المتصاعد في الهواء يقوي جهازهم المناعي، وبالتالي يزيد مقاومتهم لأمراض الربو والحساسية. وأثبتت الدراسات العلمية أن التعرض للغبار يعزز قدرة الأطفال على مقاومة البكتيريا والميكروبات الضارة، فضلا عن تعزيز الأنظمة المناعية في أجسادهم بشكل عام .
اعتقدوا أنني قدمت تضحية بنفسي من أجل أخي، وأنني أرغب في إنقاذه من المشنقة، ولم يدركوا أن اعترافي هو الحق وأن نفيه أيضا هو الحق . .
و تنهد الأخ الكبير , و قال : (( إنّ ما قاله شقيقي حق , و لست في
أعترف بمعرض الدفاع عن نفسي لأنني أعلم أن وقت الدفاع عن النفس قد فات، ولكنني أعترف بأنني قتلت غير هؤلاء الرجال الثلاثة الذين قتلوا في تلك الليلة. وكنت أقتل القتيل وأسير في جنازته وأظهر حزني عليه بطريقة مبالغ فيها. وقد ستر الله علي مرارا كثيرة، ولكن الله يمهل ولا يهمل .
سأشنق غدا لأجل قتل الكثيرين، ليس لأجل الثلاثة القتلى. وإذا نجحت في الهروب من عقاب البشر، لم أنجح في الهروب من عقاب الله
في صباح اليوم التالي، كان شابان يتسابقان بخطوات ثابتة وحذرة لصعود سلم المشنقة، وعلى السطح تحت حبلين يتمرجحان، يتعانق الأخوان. قال الشاب الأصغر للأكبر: `أنا أسألك عن العفو`. فأجابه الشاب الأكبر: `لم ترتكب ذنبا بحقي، بل أنا من أثمت بنفسي`.
بعد لحظات، تحولت جثتان هامدتان تتلاعب بهما الريح، وكانت هناك امرأة عجوز تنهمر الدموع من عينيها بغزارة.
وكان عدد الشهود على تنفيذ حكم الإعدام يتجاوز عشرة آلاف نسمة، من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال .
لم يكن بين الحاضرين من يشاركها في أحزانها، ولم يكن بينهم من يشاطرها الحزن، ولم يكن هناك أي تسلية في الموت، ولكن الجريمة كانت أفظع من مقابلتها بغير الشماتة القاسية.
و تحلق بعض الناس حولها يصبون لعناتهم على المصلوبين , و لكن المرأة العجوز – و كانت أم المجرمين اللذين لا تزال تتأرجح جثتاهما على حبال المشنقة , و يعبث بهما الريح بعنف و قسوة- تسربت من بين الحشود الشامتة الغاضبة , بعد أن ألقت عليهم درساً لا يزالون يذكرونه حتى اليوم و لا أخال أنهم سينسونه في يوم من الأيام .
قالت الأم الثكلى: أشعر بالحزن الشديد على هاتين الروحين، فهما كانتا الأغلى في قلبي، ولكنني كنت واثقة منذ فترة طويلة أن مصيرهما سيكون القتل بالرصاص أو الإعدام على أعمدة الإعدام .
وكم كنت أتمنى أن يموتا شهيدين دفاعا عن بلادهما أو في أرض فلسطين، ليرتفع رأسي عاليا بهما . .
لقد كنت أقول لهما : أن الموت مصير كل حي، ولكن شتان بين أن يموت المرء شريفا، وبين أن يموت مجللا بالخزي والعار!!.
لقد كنت أقول لهما : بشر القاتل بالقتل . . .
اليوم أرى موتهما بأم عيني، فإذا كانت الحدود مخذولة، فلتكن عبرة لغيرهما من الناس . .
امرأة عجوز تسير بتائهة على وجهها . .
هل يوجد من يأخذ ذلك بعين الاعتبار؟ أم هل قلوبهم مغلقة؟.
ونطق القدَر
كان مترفا في قرية شمال العراق، وكان يعيش برفاهية في قريته الجميلة الموجودة على سفح جبل عال متوج بالثلوج صيفا وشتاء .
وكانت تلك القرية محاطة بالبساتين التي تمتد لمسافات طويلة، وتمتاز بإنتاجها الغذائي المزدوج، وكانت تضم عيونا كثيرة: ماء بارد وطعم حلو ومياه وفيرة.
كانت تلك القرية جنة من جنات الله في أرضه: الثمار وفيرة والماء وفير والمناظر الطبيعية خلابة والخضرة تنتشر في كل مكان
تزوجت (سعاد) ابن عمها، وكانت جميلة بشكل مذهل وكان جمالها حديث القرية والقرى المجاورة
تخطر في ثوبها الأحمر غادية رائحة، وتنافس ورود القرية جمالًا، وتتنافس أشجارها في الجمال والاعتدال .
رآها الرجل المتنفذ وهي تحمل جرة الماء على كتفها وتتجه إلى دارها، وكان يشم رائحتها العطرة ويراقبها وهي تعمل في الحقل مع زوجها، وكلما ازدادت الأيام زاد حبه لها وتعلقه بها .
يومًا ما، تعرضت لاغتصاب من قبل شخص ما، ولكنها تماسكت وصمدت، ولم تخبر زوجها أو عائلتها بسرها خوفًا من الفضيحة وسطوة خصمها الذي يحظى بتأييد أهل القرية .
يقوم الرجل بتصميم شيء معين في نفسه ويعمل على تنفيذه . .
زوجها كان يحصد محصوله في أواخر الربيع وأوائل الصيف، وكان يستغرق عمله يومه كله، وكان قد بقي شطر قليل من المحصول، فحمله بعزم ودأب على الحصاد بعد الغسق .
كانت زوجة الرجل في المنزل تحضر الطعام له، وكان قد أرسلها إلى المنزل في المساء لينضم إليها بعد قليل، وكانت تعاونه طوال النهار في الحصاد وتساعده في حمل المحصول إلى ساحة مجاورة للمزرعة، ولذلك شعر بالشفقة تجاهها بعد أن قضى اليوم بجهد شاق، وشعرت هي بالشفقة تجاهه بعد الإجهاد الذي تعرضت له .
كانت تنتظره في المنزل بفارغ الصبر للقائه، وكان يعمل بجد ليلاً نهارًا ليتمكن من لقائها، وكانت وجبتها جاهزة، فوقفت بالقرب من الباب ترقب عودته .
كان الرجل المغرم يراقب زوجته وراء صخرة شديدة، وعندما رأى أنها وحيدة بعد ساعة من غروب الشمس، أطلق النار عليها ببندقيته وأرداها قتيلة، ثم تسلل إلى القرية مستترًا بظلام الليل الدامس .
بعد طول انتظارها لزوجها، قررت الزوجة الذهاب إلى عائلتها وإخبارهم بالأمر، فوجدوه جثة هامدة ومغمورًا ببركة من الدماء .
كما كان يملأن يملأ المنزل انشراحًا وفرحًا حين كان حيًا، فقد ملأه الحزن والترحُّم بعد أن توفي .
ارتدت الأرملة اللون الأسود، وأصبحت أيامها أكثر حزنًا وأسودًا من لون ثيابها، وكانت تتطلع دائمًا لمعرفة تطورات التحقيق في قضية مقتل زوجها .
تم التركيز على الحادث من قبل رجال الأمن والمحققين، حيث تم تضخيم الملفات وزيادة الاستجوابات والأجوبة، ولكن للأسف تم إغلاق القضية بعد تحديد المتهم كمجهول الهوية وعدم تمكن المحققين من الكشف عن هويته
تمت العملية بنجاح وتوفي المريض، وهذا ما يقوله بعض الأطباء .
والحق أن هذه القضية بالذات ، كانت قضية صعبة جداً : القتيل لا يوجد لديه أعداء، وعائلته لا يشتبهون بأي شخص، وحدث الجريمة في الظلام التام، ولم يترك القاتل أي أثر لجريمته، وتم اكتشاف الجثة بعد ساعات من وفاتها، ومكان الجريمة بعيد عن القرية . .
كان الناس يعتقدون بأن القاتل قد نجا من العقاب إلى الأبد، ولكن الله كان يراقبه، ويُراقب الناس والله، وتكون يد الله فوق أيديهم .
بعد مضي عدة أشهر على وفاة زوجها، تنافس المعجبون على يدها، وكان من بينهم الرجل المؤثر في قريتها .
قام الرجل المتنفذ بالجهد والمال وسعى بجد للحصول عليها، سواءً بالتهديد أو بطرق أخرى، حتى تمكن من التغلب على خصومه وحصل على حبيبته، وأصبح محسودًا عليها، وترصده حاسدوه من كل مكان .
مرت السنوات بثقلها على قلب الحسناء التي لم تنس ابن عمها زوجها الأول في أي وقت .
كانت ثروة زوجها الجديد ونفوذه ومساعداته السخية هي ما تغمرها به
تحمل كل العناية والحب، ومع ذلك لا تنسى أيام ابن عمها بما فيها من ألم وأمل وجهد وعرق .
كانت علاقتها بزوجها الجديد علاقة سطحية وثريد، بينما كانت علاقتها بزوجها الأول علاقة قوية وعميقة، وكل مال الدنيا وثرائها لا يساوي لمحة من علاقة الدم بالدم والروح بالروح .
كان حباً من جهة واحدى الزوج الجديد ، وكان حب من جهتين مع زوجها الراحل ، فكانت أيامها مع الجديد أعواماً ، وكانت مع الأول لحظات . . ! وقصد الزوج الجديد صديقاً له في قرية مجاورة ، وأصرًّ الصديق عللا إكرام ضيفه ، ومضت الساعات لإعداد الطعام ، حتى إذا مدت الأطعمة وأقبل عليها الحاضرون ، كان قد مضى الشطر الأول من الليل .
عاد الزوج إلى قريته في الوقت المتأخر من الليل، وخلال عودته عبر منعطفات الوديان وسفوح الجبال، سمع إطلاق النار وصراخًا وأصوات استغاثة وحشرجة المحتضرين .
وأمسك بالشيء الذي سقط في يده، وأخرج مسدسه للدفاع عن نفسه وأطلق عدة رصاصات منه، ثم انتقل إلى حفرة وراء صخرة ضخمة لينتظر انتهاء الهجوم وتوقف إطلاق النار .
حضر الناس من القرى المجاورة ورجال الأمن والشرطة، ووجدوا الرجل فوق جثة هامدة، وكانت ثيابه ملطخة بالدماء ومسدسه بيده .
وقادة رجال الأمن متهماً بالقتل والسلب ، وكانت كل القرائن تدل على أنه هو القاتل : لا أحد في المنطقة غيره ، وقد وجد في الحفرة التي وجد فيها المقتول ، وثيابه ملطخة بدماء القتيل ، والإطلاقات التي خرجت من مسدسه من نوع الإطلاقات التي استقرت في الجسد الهامد حسب تقرير الطبيب العدلي !!
لم يستفد دفاعه خلال محاكمته بزعمه أنه عابر سبيل وأنه لجأ إلى الحفرة خوفًا من الرصاص المنهمر عليه، وأنه أقام في حفرة القتيل ذاته .
الغريب في الأمر أن الحفرة التي استخدمها في هذا الحادث هي نفس الحفرة التي استخدمت لاغتيال الزوج الشهيد
أصدرت المحكمة الكبرى حكم الإعدام شنقاً حتى الموت عليه، وصادقت محكمة التمييز على هذا الحكم، ثم استكملت الدعوى بشكلها الرتيب .
في يوم تنفيذ حكم الإعدام، حضر أهل المحكوم عليه وزوجته لتوديعه في وداعه الأخير . .
طلب الرجل الانفراد بزوجته لحظة من الزمن وقضى معها تلك اللحظة
بعدما انهمرت الدموع من عينيه، وقفت الزوجة جامدة كالتمثال، لا تتكلم ولا تنوح . .
جاء السجان ليطلب من أهله وزوجته مغادرة السجن، لكنهم تركوا الرجل لمصيره المحتوم .
لم تتحدث الزوجة، وكان سكوتها أعلى من أي كلمة .
عندما جاءوا بالرجل إلى قريته ونفذوا عليه حكم الإعدام ودفنوه في التراب إلى الأبد، لم تتزين زوجته بالسواد كبقية أفراد عائلته . .
عادت الزوجة إلى أهلها مع أولادها، ورفضت البقاء في بيت أهلها بالرغم من الإلحاح والإغراء . .
وجاء أبوه يوماً إليها طالباً استعادة أولاد ابنه إليه ، فلما ألح عليها و ألحف ، همست في أذنه : “أن ابنك هو قاتل زوجي الأول ..! لقد قال لي حين اختلى بي في زنزانته على مرأى منك ومن أهله : أرجو عفوكِ ، فقد قتلت زوجك الأول من أجلك لكي تكوني لي وحدي ، ولم أقتل الرجل حُكمتُ من أجله بالموت ، ولكن الله كان لي بالمرصاد ، فانتقم مني لزوجك بعد حين ” .
وسكت الوالد وسكتت الزوج ، ونطلق القدَر :
” وبشر القاتل بالقتل ” . . .
دقة بدقة
كان هذا التاجر الكبير يتاجر بين العراق وسوريا، حيث كان يبيع الحبوب في سورياويستورد الصابون والأقمشة منها
كان رجلًا مستقيمًا في خلقه، متدينًا، يتصدق على الفقراء بما أنعم الله به عليه من خير
وكان يقضي حاجات الناس لايكاد يرد سائلا وكان يقول : زكاة المال من المال وزكاة الجاه لقضاء الحاجات
كان يزور المرضى في حيه ويتفقد حالتهم يوميًا، وكان يصلي المغرب والعشاء في مسجد صغير بالقرب من منزله، ولم يتخلف جارٌ عن الصلاة إلا ويسأل عنه، وإذا كان أحدهم مريضًا، فإنه كان يعوده، وإذا كان بحاجة إلى المال، فإنه كان يمنحه مما لديه، وإذا كان مسافرًا، فإنه كان يرعى أسرته ويعتني بها، وكان لديه ولد وابن يافعين
وفي يوم من الأيام سأل ولده الوحيد أن يسافر إلى سورية بتجارته قائلا له : ” لقد كبرت ياولدي فلا أقوى على السفر وقد أصبحت رجلا والحمدلله فسافر على بركة الله مع قافلة الحبوب الى حلب فبع ما معك واشتر بها صابونا وقماشا ثم عد الينا اوصيك بتقوى الله وأطلب منك أن تحافظ على شرف أختك” وكان ذلك قبل الحرب العالمية الاولى يوم لم يكن حينئذ قطارات ولا سيارات
سافر الشاب مع قافلة تجارية تابعة لأبيه، وسهر على إدارة القافلة وحماية مالها، ويتولى شؤون رجالها خلال رحلاتها
في مدينة حلب الشهباء، باع الرجل حبوبه واشترى بثمنها صابونًا متميزًا وقماشًا فاخرًا، ثم استعد للعودة إلى الموصلالحدباء. وفي يومٍ من الأيام، قبل عودته من حلب، رأى شابة جميلة
كان يسير ببطء في طريق مقفر بعد غروب الشمس، ثم فوجئ نفسه برغبة شديدة في تقبيل الفتاة التي كانت تمشي بجانبه، فأخذ يحتضنها ويقبلها بسرعة قبل أن يفر هاربًا. وعندما هربت الفتاة، شعر المرء بالندم والحزن على ما فعله، ولم يستطع البقاء في مكانه للحظة واحدة دون شعور بالذنب
وكتم أمره عن أصحابه ولم يبح بسره لأحد وبعد أيام عاد إلى بلده وكان والده الشيخ في غرفته يطل منها على حوش الدار حين طرق الباب السقاء فهرعت ابنته الى الباب تفتحه له وحمل السقاء قربته وصبها في الحب وأخت الفتى تنتظره على الباب لتغلقه بعد مغادرة السقاء الدار وعاد السقاء بقربته الفارغة فلما مر بالفتاة قبلها ثم هرب لايلوي على شيء
ولمح أبوها من نافذة غرفته ماحدث فردد من صميم قلبه :
لاحول ولاقوة الا بالله العلي العظيم
لم يتحدث الأب ولم تتحدث الفتاة
عاد السقاء في اليوم الثاني إلى منزل الرجل كالمعتاد، وكان ينظر إلى الأرض وهو خجول، وعندما فتحت له الفتاة الباب، لم يعد يفعل ما فعله مرة أخرى
كان هذا السقيا يزود الدار بالماء منذ سنوات طويلة، وكان يزود دور المحلة كلها بالماء، ولم يحدث في أي وقت أي شك أو شبهة فيما يتعلق بنزوله، ولم يحصل له أي موقف سيئ من قبل الناس، وكان في العقد السادس من عمره وقد مضى عهد الشباب الذي يتسم بالتهور والجرأة والغرور
تمتلك الفتى الموصل صحة جيدة وثروة وفيرة
إذا لم يفرح والده بالصحة ولا بالمال، فلن يسأل ولده عن تجارته وسفره وأصحابه التجار في حلب
لقد سأل ولده أول ما سأله : ماذا فعلت منذ خروجك من الموصل حتى عدت إليها؟
وابتدأ الفتى يسرد قصة تجارته فقاطعه أبوه متسائلا : طلب منهالشاب “هل قابلت فتاة ماذا وأين” ثم وقع في يده وأنكر
انحرج الفتى واحمر وجهه وتلعثم في كلامه، ثم انحنى إلى الأرض وضرب رأسه بها بصمت تام، كأنه صخرة من صخور الجبال لا يتحرك ولا يتكلم
رغم أن الصمت استمر لفترة قصيرة من الزمن، إلا أنه بدا طويلاً وشاقًا
واخيرا قال ابوه: لقد نصحتك بأن تحافظ على عرض أختك خلال رحلتك ولكنك لم تفعل
أخبره قصة أخته وكيف قبَّلها السقاة، ولابد أن هذا القبلة تجاه الفتاة مرتبطة بتلك القبلة للوفاء بالوعد
وانهار الفتى واعترف بالحقيقة
وقد قال والد الشخص له بتعاطف عليه وعلى أخته وعلى نفسه: “لا أدري إن كنت قد كشفت ذيلي في الحرم، ولكني كنت أحمي شرفي عندما كنت أحمي شرف الناس، ولا أتذكر أنني قد خانت شرفي أو ارتكبت فعل فاضح، وأتمنى ألا أدين الله بذلك، وعندما قبلت السقاء، أدركت أختك أنك قبَّلت فتاة ما
فقد قامت أختك بسداد دينك عنك بالضبط، وإذا زادت فسوف يزداد العبء
وكانت يمامة تتغنى فوق سطح الدار وكان مما رددته:
من يخاف على عقبه وعقب عقبه فليتق الله
من يتجسس على عورات الناس يتجسس الله على عورته
من يتبع الله عورته يفضحه ولو كان في جوف رحم
من يحرص على عرضه، فليحرص على أعراض الناس، ومن يريد أن يهتك عرضه، فليهتك أعراض الناس
لذة ساعة غصة الى قيام الساعة
وكل دين لابد له من وفاء
ودين الأعراض وفاؤه بالاعراض
من يهتك عرضه، يهتك عرض الناس أجمعين
الذين يتلذذون بالمحرمات قليلاً، سيبقون عالقين في ما يجنونه من جرائم بحق أنفسهم
والذين يخونون حرمات الناس يخونون حرماتهم أولا
إنهم غافلون عن حقيقتهم لأنهم آخر من يعلم
إذا علموا الحقيقة، لأحسوا بالخجل والعار من البشر
” إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ” الفجر 14
وانه اعدل العادلين
” فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.” الروم 9
الإنسان المظلوم
كان هذا التاجر متوسط الثراء، وكان يشتري الأبقار من العراق أو إيران، ثم يقوم هو ورجاله بنقلها مرحلة بعد مرحلة حتى يصلوا إلى سوريا ولبنان، وقد يصلوا أحيانًا إلى مصر، حيث يقومون ببيع الأبقار وشراء الأقمشة وغيرها من المصنوعات بثمنها، ومن ثم يعودون بها إلى العراق.
وكان الرجل مسلماً حقاً: يتميز بأنه قوي ومتماسك، ويصوم وينفق على الفقراء، ويؤدي واجباته تجاه ربه والناس، ويتحلى بالورع والنقاء، وممتلكاته ليست له وحده، بل هي للمحتاجين من أقربائه وأهل بلده، ولكل فقير محتاج.
في إحدى رحلاته التجارية، قبل الحرب العالمية الأولى (1914-1918 م)، تساقط الثلج بكثرة وأفسد الطرق وقتل الأعشاب، مما أدى إلى موت أغلب أبقاره، باستثناء أربع منها. وبعد ذلك، قام بإطلاق عماله وأخذ يتنقل بالأبقار الأربع المتبقية من مكان لآخر، وكان ينوي الوصول إلى حلب الشهباء لسداد ديونه هناك وفقًا لقدرته والبحث عن عمل
سيتم تأجيل ما تبقى منها إلى العام القادم، لأن تجارته في هذا العام لم تكن مربحة، وأن مع الصعوبة يأتي السهولة.
في إحدى الأيام، وصل إلى قرية صغيرة في طريقه من الموصل الحدباء إلى حلب الشهباء. طرق باب أحد بيوت القرية، وعندما خرج صاحب المنزل إليه، أخبره بأنه ضيف الله ويريد أن يبيت ليلته في منزله، وفي الصباح سيغادر إلى قرية أخرى.
في الماضي، لم تكن هنا فنادق تستقبل المسافرين ولا مطاعم يتناول فيها الغرباء طعامهم. وكان الغريب أو المسافر يتوجه إلى أي منزل في المنطقة التي يصل إليها، ويتم استضافته كضيف بين أفراد أهل المنزل، حيث ينام كما ينامون ويتناول طعامهم بدون أي مقابل أو أجر . .
رحب صاحب المنزل بضيفه وأدخل أبقاره إلى ساحة المنزل وقدم الطعام للضيف والعلف للأبقار.
تعرض صاحب المنزل للمرض وكان قد تأثر بموجة طويلة وشديدة من الثلوج، مما أدى إلى موت مواشيه وتلف زراعته.
كان متزوجًا ولديه طفل واحد في العقد الثاني من عمره
في داره غرفتان: غرفة للزوج والزوجة وغرفة للابن في المنزل.
اجتمعت العائلة حول الضيف الجديد وقاموا بتقديم الطعام، مما دل على أن الضيف يحمل مبلغًا من المال. .
في الوقت الذي يوشك فيه الساعة على الثانية من منتصف الليل، استقر المضيف وزوجته في غرفتهما، ونام الضيف في غرفة ابن المضيف على فراشه في الزاوية اليمنى من الغرفة، فيما نام الولد على فراشه في الزاوية اليسرى من الغرفة . .
بعد أن سأل المضيف ضيفه إذا كان يحتاج إلى أي شيء، وتأكد من راحته وتوفر الماء لديه، غادر غرفة ابنه وضيفه وعاد إلى غرفته لينام هو أيضًا.
وفي غرفته همست له زوجته: يافلان إلى متى نبقى في عوز شديد؟ هذا الضيف غني، ونحن بأشد الحاجة إلى ماله وأبقاره، إننا مقبلون على مجاعة لا يستطيع الأغنياء أن يتغلبوا عليها إلا بمشقة بالغة، وسنموت نحن بدون ريب، إننا الآن نأكل يوماً ونجوع أياماً، فكيف بنا إذا حلت بالقرية المجاعة المترقبة، ولا مال عندنا ولا طعام؟.
تتاح لنا الفرصة اليوم، وربما لن تتاح مرة أخرى في المستقبل. لذلك، دعونا نستغل هذه الفرصة ونسرق مال الضيف ونأخذ أبقاره، حتى نستطيع الحفاظ على حياتنا وحياة ابننا الوحيد.
وقال لها الرجل: تساءل الرجل: ” كيف نسلبه ماله وأبقاره وهو ضيفنا؟ كيف يسمح لنا بأن نفعل ذلك؟! ”. وأقترحت زوجته أن يقتلوا الضيف ويدفنوه في حفرة قريبة في بطن الوادي، وأن لا يعرف أحد بخبر ذلك. وتردد الرجل، وألحت المرأة، وكان الشيطان ثالثهما، فأغراه الشيطان بقول زوجته، وألح هو أيضًا على الإقدام على قتل الضيف. . .
لكي تنقذ نفسها وزوجها من الموت الأكيد، قطعت المرأة على زوجها داءَ تردده، وأخبرته بأن ما يفعله ضروري ويبيح المحرمات في الضرورات، حتى يقطع الشيطان عليه. .
وأخيرًا، وافق الرجل وعزم على قتل الضيف وسلب ما لديه من مال ومتاع.
كان الوقت في الثلث الأخير من الليل، وكان كل شيء هادئًا وساكنًا، وكانت الأنوار مطفأة، ولم تكن هناك أضواء في المنازل غير سراج يعمل بالزيت.
وأخرج الرجل خنجره، وشحذه، ثم يمم شطر غرفة الضيف وابنه، ومن ورائه زوجته تشجعه. .
توجه الرجل ببطء على أصابع قدميه نحو شطر الزاوية اليسرى من الغرفة حيث يرقد الضيف، وتحسس جسده
يجب أن تلمس رقبته في الظلام ، ثم ذبحه مثل ذبح الخروف.
وصلت زوجة الرجل للمساعدة في سحب جثة ابنهما الوحيد من الغرفة، حيث اكتشفا أنهما قد ذبحاه.
تنفس الرجل والمرأة شهقةً عميقةً، ثم سقطا مغشيَّيْن عليهما، واستيقظ الضيف والجيران عند سماع صوت الجلبة، ليجدوا نجل الرجل قتيلاً، ووالدته ووالده مغشيَّيْن عليهما مستلقين بجانب الجثة الهامدة على الأرض.
تمرَّع الضيف والجيران للمساعدة، وقدَّموا للرجل والمرأة المتضررين الماء البارد ليرواجا به وجهيهما، كما وقاموا بتدليك أجسادهما. وبعد استعادتهما وعيهما، انهارا في البكاء وطلبا من الجيران الإبلاغ عن الحادث للشرطة التي حضرت بسرعة وألقت القبض على الجانيين.
ماذا حدث في غرفة الضيف وابن المضيف؟.
بعد خروج والده من الغرفة، ذهب الابن إلى فراش الضيف وبدأ الرجلان بالتحدث معًا. كان الحديث محمّلاً بالشجن واستمر طويلاً حتى نام الولد على فراش الضيف بعد أن غلبه النعاس.
لم يرد الضيف أن يوقظ ابن المضيف، لذلك ترك له سريره بعد تغطية الغطاء عليه، ثم ذهب لينام في سرير ابن المضيف. .
عندما دخل المضيف غرفة الضيف وابنه، كان يعرف بالضبط مكان سرير كل منهما، لذلك قام بذبح ابنه وهو يظن أنه الضيف
مثلما حاول الخارجي اغتيال عمرو بن العاص في عملية اغتيال الفجر، إلا أنه قتل خارجة بن حذافة بدلاً منه. وعندما علم بالأمر، هتف بقلب مفعم بالحماس: `لقد أردت عمراً وأراد الله خارجة`.
دفن الولد القتيل بين الجيران، واحتجز والده في السجن. .
على شجر خابور الفرات بالقرب من قرقيسيا، كانت هناك يمامتان تتحدثان عن قصة الضيف والمضيف وقصة عدالة السماء بالطريقة التي يتحدث بها الناس
قالت الأولى:
إن الله هو الغني والناس هم الفقراء.
والله هو الرازق العليم.
ورزقه مكتوب لكل ذي روح.
فليطلب المرء رزقه حلالا.
وقالت الثانية:
لا حارس كالأرجل.
والله هو الرقيب الحسيب.
فإذا نام الخلق، فالخالق لا ينام.
ولن تموت نفس حتى تستوفي أجلها.
قالت الأولى:
احفظ الله يحفظك.
ومن يتق الله يجعل له مخرجا.
(وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا) (الكهف:82).
الله يساعد العبد ما دام العبد يساعد أخاه.
وقالت الثانية :
الظلم لا يدوم , و إن دام دمر .
والعدل يدوم و يزدهر .
الظلم هو ظلمات، والسجون هي بعض هذه الظلمات .
والنور هو العدل، ومن نوره يأتي راحة الضمير .
وأعاد الحيوان والجماد والإنسان حكمة الخالق وعدل السماء، ونظر إلى كل شيء إلا الإنسان} فقد كان ظالما جاهلا {الأحزاب: 72}.
اليمين على من أنكر
وقف أمام القاضي , فأنكر أنه مدين بمبلغ خمسمائة و ألف من الدنانير لورثة الحاج إبراهيم محمد , فطلب منه القاضي أن يقسم بالقرآن الكريم , بأن الحاج إبراهيم لم يدفع له في يوم من الأيام هذا المبلغ , وأنه ليس مديناً له , فأقسم ثم غادر المحكمة بع أن أفرج عنه القاضي و نطق بالحكم عيه بالبراءة .
لم يمضِ وقت طويل بعد عبوره عتبة المحكمة حتى سقط ميتًا على الأرض
هذا ما حدث في عام 1954م في إحدى مدن العراق، ولكن القصة لا تبدأ بهذه الطريقة، فلنروي القصة كما حدثت
كان الحاج إبراهيم محمد تاجرا كبيرا، وكان لا يرفض طلب الطالب، ولا يخيب أمل القاصد.
في يوم ما، زار السيد (…) مكتبه الواقع في (خان الشط) المطل على نهر دجلة، وعرض عليه أمره.
و قال السيد(…) للحاج إبراهيم: أنا جارك، وكان والدي صديقا مقربا لك، وعند وفاته أوصاني أن ألجأ إليك عندما يكون لدي حاجة أو تكون الحياة مرهقة بالنسبة لي.
في هذه السنة، لم تعط الزروع ثمن بذورها، حيث باهتت الأرض وتوقف المطر وتدهورت الحالة، فلا أعرف كيف أتصرف في موقفي.
“كنت استقرضت فلوس من البنك، لازم أسدد ديوني له وإلا راح يتكشف أمري ويفرحوا به أعدائي.
واليوم جئتك لتقرضني خمسمائة وألفا من الدنانير، لأسدد الدين المتراكم على مصرف الرافدين، وأشتري البذار وأتصرف في أموري، وعهدي معك بأن أوفي دينك في موسم حصاد القمح والشعير في العام المقبل.
قام الحاج إبراهيم بالذهاب إلى خزانة أمواله في مكتبه، وأخرج منها المبلغ وسلمه للسيد (…) وسجل المبلغ في سجل الحسابات.
وعبر الدائن عن شكره وامتنانه وأصر على كتابة إيصال الدفع
كمبيالة, قال الله تعالى:يا أيها الذين آمنوا، إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوهُ.” (البقرة: 282).
?
ولكن الحاج إبراهيم قال له:يقال إنه لا شكر على الواجب، وبيني وبينك الله، فهو نعم الوكيل، ونعم الشهيد.
بعد سنة تقريبا من وقوع هذا الحادث، توفي الحاج إبراهيم بسبب نوبة قلبية، وترك وراءه زوجة وأربعة أطفال، وأكبرهم في الثالثة عشرة من عمره.
فحص زوج الرجل ملفات زوجته وسجلاتها التجارية، وساعدها في ذلك أخوها المحامي، فاكتشفت تفاصيل ديون زوجها لدى الناس.
مرت الأيام والشهور بعد وفاة زوجها، فقامت بإرسال رسالة إلى السيد (…) تطالبه فيها بما عليه من دين تجاه زوجها، ولكن السيد (..) نفى أن يكون مدينا لزوجها بأي شيء، وربما نسي زوجها تسجيل الدين في سجلاته.
سمع الناس بالحادث، وكان بعضهم قد سمع بأن الحاج إبراهيم أقرض السيد (…) بعض المال، فزعم للناس أنه وفى للحاج إبراهيم دينه، ولو كان مدينا لوجد ورثة الحاج إبراهيم دينه في مخلفاته.
وانقسم الناس في المحلة من الجيران إلى قسمين: يؤيد هذا القسم ورثة الحاج إبراهيم ويشير إلى أنه يُقرض النقود بدون مستند حسبة لله
أو سندا، وهناك من يؤيدون السيد (…) بأنه غير معقول أن يدفع الحاج إبراهيم مبلغا من المال للسيد (…) بدون وثيقة أو سند.
وطلب زوج الحاج إبراهيم من بعض الأشخاص الصالحين في المنطقة أن يساعدوه في تغيير موقف السيد (…)، ولكنه رفض بغطرسته وعناده، كأنه صخرة صلبة من صخور الجبال.
وكما أن آخر الدواء الكي, فإن آخر مطاف المتنازعين المحاكم…
ووكلت زوجة الحاج إبراهيم أخاها المحامي، ليعرض شكواها على المحاكم…
حان يوم المحاكمة، وحضر المتهم إلى ساحة المحكمة.
أترك الحكم للأستاذ الحاكم (…) الذي شرح تفاصيل المحاكمة، ومن بين ما قاله: “كنت مقتنعا بأن السيد (…) مدين للحاج إبراهيم بهذا المبلغ.
ومع ذلك، لا يوجد دليل مادي آخر غير تسجيل هذا المبلغ بخط الحاج إبراهيم في سجل ديونه على الناس، وهذا الدليل وحده لا يكفي لإثبات التهمة.
لم ينكر السيد (…) استدانته لهذا المبلغ من الحاج
إبراهيم، ولكنه أفاد بأنه أعاد المبلغ إلى صاحبه بعد سنة من اقتراضه.
وشهد أحد الرجال، بأنه سمع السيد (…) يثني على الحاج إبراهيم، ويذكر أنه انتشله من وهدة الفقر والحرمان بإقراضه بعض المال حسبة لله، ولكن الشاهد لم يتذكر مقدار المبلغ ولا وقت سماعه حديث السيد (…).
كانت القضية بأكملها كريشة في مهب الريح، فحاولت أن أجر المتهم للاعتراف بالدين، ولكنه كان يفلت من الاستجواب.
“إن المحاكم في هذه القضية, تطبق المبدأ القضائي:(البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر)…
“وقلت للمتهم: هل تقسم بالقرآن الكريم أنك لست مدينا للحاج إبراهيم بهذا المبلغ ولا غيره، وأنك قد سددت ما كان عليك من دين؟
“وقال المتهم:اقسم…ثم أقسم.
“ونطقت بالحكم: البراءة.
خرج المتهم من المحكمة بكبرياء ورفعة رأس، وكان لديه مظهر قوي وقامة مشرفة، وكان جسده سليما وصحيا في سن الشباب.
عندما يغادر المتحدثون المحكمة، يسمعون ضجيجًا خارج المحكمة، فتهرع الشخصية الرئيسية لتحديد مصدر الضجيج
((وصعقت لأنني وجدت المتهم الذي كان ماثلاً أمامي قبل لحظات معدودات في أوج صحته، وعنفوان شبابه، وكمال رجولته، ممتداً على الأرض، جاحظ العينين، مفتوح الفم أصفر الوجه، كأنه ?وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ?] إبراهيم:26[…
((وهتف الناس من حوله لقد مات)).
كانت زوجة الحاج إبراهيم تعيش في منزل قريب من منزلي، وكانت لها صلة قربى بأهلي
واشتقت أن أسمع القصة منها، فسألتها عن الخبر، فكان مما قالته:
كان المرحوم الحاج إبراهيم يتمتع بصفات الجوار الحميدة والتعامل الحسن مع الناس عمومًا، حيث كان يُقرض المحتاجين ويقوم بتدوين قروضه في سجلٍ خاص
((وكنت ألومه على ذلك فيقول: المال هو مال الله، ولقد كنت فقيرًا وأغناني، وكنت يتيمًا فآواني، لذلك لن أظلم يتيمًا ولن أحرم المساعدة على المحتاجين
((وكان يختم كلامه كُلَّ مرة بقوله: ياليت لي في كلَّ قبر دَيّناً…)).
شاهدت محاكمة السيد (…) واستمعت إلى أقواله، ولم أشك في أن الله يرى ويسمع.
صدر حكم البراءة من قبل القاضي بعد أن أقسم المتهم اليمين ، ولكن عندما أقسم باليمين، شعرت بالرعشة ، لأنني كنت متيقنة من كذبه وجرأته على انتهاك كتاب الله عز وجل..
((وقُلتْ أخاطب الله سبحانه وتعالى: يعلمون أنت سري ومخفي، وأنت العالم بالغيب، لذلك إذا كان السيد (…) كاذبًا في قسمه، فاجعله عبرة للناس
يا قوي يا جبار…
عندما خرج المتهم من المحكمة وأنا أنظر إليه ، سقط ميتًا على بعد خطوات من باب المحكمة ..
– لقد نجا السيد (…) من حاكم من حكام الأرض، ولكنه لم ينجُ من حاكم الأرض والسموات، ولم يكن الصراع يدور بينه وبين ورثة الحاج إبراهيم، بل كان الصراع يدور بينه وبين جبار السموات والأرض
في ليلة شتوية قاسية، حيث كان البرد يشدّ والمطر ينهمر، وكان الناس يلجأون إلى أسرّتهم ليستمتعوا بالدفء والراحة.
خلال ساعات متأخرة من الليل، كان جرس دار الحاج إبراهيم يرن بقوة واستمرار
كانت هناك امرأة متشحة بالسواد ترافقها طفل يبلغ من العمر ست سنوات عند الباب
عندما فتح زوج الحاج إبراهيم الباب ليروي من الطارق، وجد زوج السيدة (…) الذي قال لزوج الحاج إبراهيم: ((نفى زوجي أنه مدين لك، ولكنني كنت أعرف أنه كاذبًا…
وأردت أن يسدد دينه وألحَّت في رجائي وألحَّفت، ولكنه تجاهل طلبي ومضى في طريقه الخاص
زوجي دفع ثمن كذبته باهظًا، وهذا هو المبلغ الذي كان مدينًا به لزوجك.
ألقت المرأة كيسًا يحتوي على خمسمائة ألف دينار، ثم عادت بسرعة إلى منزلها، وخلفها ابنها، دون أن يسمع كلمة من زوج الحاج إبراهيم
وظل زوج الحاج إبراهيم يقف عند باب منزلها يراقب شبحين يتحركان في الظلام.
عندما وصلت إلى فراشها، كانت تستمع إلى صوت هطول المطر وعويل الرياح الهوجاء
تذكَّر قصّة حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، الزبير بن العوام، رضي الله عنه:
قال عبدالله بن الزبير رضي الله عنه: أثناء يوم الجمل، زبير أوصاني بدينه وقال: إذا كنت عاجزا عن شيء من الدين، فاستعن بمولاي، فقلت له: يا أبت، من هو مولاك؟ فأجاب: الله تعالى… وبالله، لم أعرف ماذا يقصد حتى قلت: يا مولى الزبير، أقض عني هذه الكربة، ولقد تم القضاء عني. إن الدين الذي علي هو ما كان يأتيني به المال ويودعه معي، ولكنه يقول: لا، بل هو قرض، فإني أخشى عليه من الضياع. فعندئذ قمت بحساب ما عليه من الدين، ووجدت أنه يبلغ مليونا ومئة ألف دينار، ولم يترك درهما واحدا أو دينارا إلا أنه باع قطعتي أرض وسدد دينه. فقال بنو الزبير: ورثتنا؟! فرددت قائلا: والله لن أقسم بينكم حتى أناديكم لمدة أربع سنوات خلال الموسم: أي شخص لديه دين على الزبير، فليأتنا لنقم بتسديده. فبعد أربع سنوات مرت، قمت بتقسيم الميراث بينهم، وتلقى كل وارث حقه كاملا.
تم سداد دين الزبير من قبل مولاه
وكان واثقًا من الله، فلم يخيب ظنه به.
الله هو المولى لجميع الناس، وليس الزبير وحده.
الإيمان المطلق والثقة المطلقة بالله تعالى ينقصها معظم الناس
الله هو الذي لا ينسى حتى النملة في الصخرة وسط البحر المالح الأجاج، ويرسل لهارزقها من حيث لا تحتسب، وهو الذي لا ينسى أرزاق عباده الآخرين.
هناك فرق كبير بين الرزق الحلال الطيب والرزق الخبيث.
يا قطيع الضالين الذين يجوبون في متاهات الكفر والضلال الحرام.
الثقة بالله والإيمان بالرسالات السماوية هما المفتاح للخير والسعادة والبركة.
يتضمن ذلك الإيمان ببعض ما كان يؤمن به الصحابي الزبير، والثقة ببعضما كان يتمتع به الزبير من الثقة، وسيقضي مولاكم كل دين ويزيل كل كربة عنكم، ويجعل من صعوباتكم سهولاً، ويمنحكم بركات الأرض والسماء.
من هنا الطريق …
?وَلَ?كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ?]الأعراف:187[.
الرصاصة العادلة
في أيام الصيف وعلى ساحل البحر، تحدث كوارث وأحداث تعمل على تدمير المنازل وتفشي الفساد والفوضى.
قبل خمسة أعوام ألحت عليه زوجه، وطالبته بالسفر إلى المصيف البحري: تستنشق رائحة بحره العليلة، وتستحم في مياهه وتصارع أمواجه، وتختلط مع الغادين والرائحين عارية متهتكة، وتتمتع بحريتها الحمراء على غرار النساء الغربيات دون رادع أو دين.
وكان مما هو معروف مألوف…!
تعرفت عائلة على عائلة أخرى، وكان في العائلة شاب مفتول العضلات، وجميل المظهر، وطويل القامة، يمتلك سيارة فارهة، ولا يتمتع بأي ضبط ذاتي أو ديني.
عرض الشاب خدماته وأريحيته لصالح الشيطان، وتم الاتفاق على لقاء واستحمام في البحر، وحدث غزل بين الشابين
تدور الرواية حول رجل مشغول بعمله ومهمته، وزوجته التي تشعر بالإهمال، وابنهما الطفل الذي يرى صورًا لحوم البحر البشرية وهو عارٍ ومغطى بالنعاس، وقد كان لديه موعدًا ولقاءً غير مشروع
كان الشاب يتطوع كل يوم لنقل العائلة : الزوج و زوجه وطفلهما بسيارته صباحاً ومساء إلى البحر ، و كانوا يستحمون جميعاً في مكان واحد ، وكانت الزوجة لا تحسن السباحة ، فتطوع صاحبنا لتعليمها على السباحة ، و كان زوجها يبتعد عنهما ليلاقي من يلاقي بعيداً عن أنظار زوجه ، و كان ينشر شباكه متصيداً أعراض الناس ، تاركاً عرضه لذلك الشاب كما يترك الراعي الغنم للذئب.
بدأ الأمر بإعجاب الزوجة والشاب بالراحة، ثم تطور إلى إعجاب بالجسد، وعندما نام الحارس، دخل اللص، وكان من المؤكد أن النار ستشتعل وتحرق الوفاء الزوجي وتدمر الطهارة والعفاف .
كانت الزوجة تحب زوجها ولا تستطيع الانتظار لرؤيته، لكنها اصبحت تكره لقاءه، وتنتظر بفارغ الصبر لرؤية حبيبها الجديد في كل لحظة .
أراد الشاب التخلص نهائيًا من زوجته، فكان لديه خطة في ذهنه
أظهر الرجل إخلاصًا وتفانيًا لزوجته، وأبدى إعجابه بمواهبها ورجولته، وكانت الزوجة تحفزه وتحببه في نظر زوجها، حتى وثق به وسلمه مقاليد الأمر.
في يوم من الأيام، تمرضت الزوجة واحتاجت للراحة في شقتها مع طفلها، ولذلك طلب الزوج من صديقه الشاب الذهاب للسباحة في البحر في الصباح الباكر بدلاً منه.
عاد الشاب وحيدًا بعد ساعتين ليخبر الزوجة بأن زوجها قد غرق في البحر، وأنه حاول إنقاذه ولكن جهوده باءت بالفشل.
لقد كان البحر خالياً من الناس فجر ذلك اليوم ، وكان البحر مائجاً صاخباً ، وكان الموج يرتفع كالجبال ويهبط كما تهبط الشهب من السماء ، وكان الزوج لا يحسن السباحة ، ولكن الشاب استدرجه إلى السباحة بعيداً عن الشاطئ ، ثم تركه طعمة للأمواج ، يستغيث فلا من مجيب ، فابتلعته الأمواج إلى الأبد.
كانت الزوجة يتيمة وليس لديها معيل، وكان الشاب يعيش وحيدا في شقته بعيدا عن أسرته.
عرض الشاب بحنان وحماسة عليها مشاركة شقته ومصيرها ،
أظهر لها استعداده لاحتضان طفلها بسبب حبه لها غير المقدس، ووعدها بالزواج .
عندما استسلمت الزوجة للشاب، انتقلت إلى شقته واستقرت فيها، وكان طفلها البالغ من العمر أربع سنوات يعتقد أن الشاب هو أبوه، فيناديه من كل قلبه باسم “بابا.
حاول الشاب أولا التودد والتأخير في الإجابة على طلب الزواج بلطف، ثم بدأ يتجاهلها ويعاملها بقسوة وعنف، وبعد أشهر تحول الشاب اللطيف إلى لص خبيث، وأظهر انزعاجه منها وطفلها، وبدأ يتعلق بغيرها من النساء، وأصبحياة منفصلة عنها في شقته، حيث يأوي إليها في أوقات متأخرة من الليل.
في صباح يوم من أيام الشتاء، كان الشاب يتناول فطوره وتعاتبه زوجته وتطالبه بالزواج منها، فكشف الشاب حقيقته التي كان يحتفظ بها من قبل وأظهر أنيابه السامة، وطلب من زوجته الانصراف من الشقة لأنه كان يعتزم الزواج من شخص آخر والاستقرار .
انهمرت دموعها بكثرة وتذكرته بالماضي الحلو والجميل، ولكنه كان قاسيًا وعنيفًا مثل الصخرة الصماء.
الطفل البريء لا يدرك معنى الدموع ولا يفهم الأحداث المحيطة به .
توسلت الزوجة إلى الشاب طويلاً بدموعها وذكرياتها دون جدوى
وكان الطفل يلهو بمسدس الشاب الذي كان بجانبه، وكان
كان الشاب مشغوفًا بعمله، وكان على يقين بأن المسدس خالي من الذخيرة، لأنه كان قد أخرج الذخيرة منه بعد عودته إلى شقته في الوقت الأخير من الليلة الماضية .
لكنه كان في حالة سكر لا يميز بين النور والظلام، وعقله مشغول بتأثير الخمر والرذلة
فجأة، خرجت رصاصة من مسدسه واخترقت الجزء الأسفل من قلب الشاب، فتلوى لحظات ثم سقط عن كرسيه فاقدًا للوعي.
في تلك اللحظات، نطق الشاب ببضع كلمات، وكانت هذه هي آخر ما نطق به في حياته، وتجمع الجيران حوله فور سماع إطلاق النار، وقال للزوجة: `لقد أغرقت زوجك في البحر ليصفوا الجو معك وحدك`.
وصل الطبيب بسرعة، ووجد أن الشاب قد توفي، وانتهى أمره.
يطلق القدر طلقته بيد الطفل الصغير الذي لا يدرك، وتسافر الرصاصة مباشرةً إلى قلب الشاب .
الطفل لم يرمي، بل رمى الله
وانتهت قصة شاب مجرم، الذي قتل أيام الصيف على شاطئ البحر، وكانت قصته تحذيرًا لكل من ينحرف عن الطريق الصحيح .
لا حارس كالأجل
كان والدي عليه رحمة الله ، يحدِّثني عن طفل تسلل خلسة من أهله وارتقى سلالم منارة (الحدباء) في الموصل ، وهي منارة شاهقة الارتفاع ، تعد من مفاخر البناء الإسلامي في الموصل ، ولشهرة هذه المنارة التي ترتفع في الجامع الكبير ، أطلق اسمها على مدينة الموصل ، فسميت باسم هذه المنارة : الحدباء .
عندما وصل الطفل إلى القمة، صعد إلى الحائط الدائري الذي يحيط بالمنارة، ولكن قدمه انزلقت وسقط على سرير من أسرة المقهى الموجود في الجزء السفلي من القاعدة .
عندما سقط الطفل وأصدر صوتًا عاليًا، هرع صاحب المقهى لمعرفة ما حدث، لكن الطفل هرب وهو يقول: ((والله عمي ما على القسط)).
لم يحدث شيء سيء للطفل، وعاش بعدها لمدة ستين عامًا، وتوفي بعد ذلك بسبب زلة قدمه على بلاط منزله.
في يوم من الأيام، كنت أقود سيارة عسكرية صغيرة في طريق جبلي بين قضاء عقرة ولواء الموصل .
وشرد فكري في أمر من أمور الحياة ، فانحرفت السيارة إلى واد سحيق ، ثم انقلبت في حفرة صغيرة ملئت بمقدم السيارة فقط ، فاسرع إلينا بعض الناس لنجدتنا ، ولم يصدقوا أننا نجونا من الموت الأكيد بفضل هذه الحفرة التي يسرها الله لنا ، وكأنها لم تكن في هذا المكان بهذا الوقت إلا ليكتب الله سبحانه وتعالى لنا الحياة .
في يوم من أيام عام 1952، كنا نسير بسرعة عالية في منطقة جبلية تدعى راوندوز، وكان الطريق ملتويًا في أرض جبلية وعرة، وعلى يسارنا كان هناك جبل شاهق، وعلى يميننا وادٍ عميق .
انقطع كابح السيارة فجأة، ففقد السائق السيطرة عليها وانطلقت بسرعة جنونية .
واستسلمنا للأقدار عندما انعطفت السيارة يمينًا لتسقط في الوادي، لكنها اصطدمت بشجرة ضخمة وتوقفت عن الحركة .
عندما نزلنا من السيارة، نحمد الله على سلامتنا وكادنا لا نصدق أننا لا زلنا على قيد الحياة.
في عام 1948م، كنت ضابطًا في الجيش العراقي المرابط في جنين، وكنت حينها ضابطًا ركنًا للقوة العراقية المرابطة هناك .
كان واجبي مرافقة ممثلي الهدنة التابعين لهيئة الأمم المتحدة في حال حدوث أي مشاكل على الحدود .
في يوم من الأيام، رافق ثلاثة ضباط من ممثلي الهدنة إلى منطقة (أم فحم) بالقرب من قريتي عارة وعرعرة، وهي منطقة وعرة جدًا .
عندما اقتربنا من حدود العدو الصهيوني، قام ممثلو الهدنة بتنبيهنا حيث قلت لهم: `إذا تخطينا الحدود، فسوف يشن اليهود علينا بالهاونات والرشاشات الثقيلة` .
وأجاب أحدهم : (( لم نخش قنابل الألمان في الحرب العالمية الثانية، فما بالنا نخشى قنابل اليهود اليوم؟!.
ثم أخبرنا الصهاينة قبل حضورنا إلى منطقتكم، فهم يعلمون بوجودنا، لذلك فمن غير المرجح أن يقصفوا بالقنابل.
وقلت لهم : إن الصهاينة ليس لهم شرف، وسوف يستغلونا بالتأكيد، وسيعتبرون قتلنا انتصارا لهم، ثم يدعون بعد ذلك لأخذ المفاوضات من ممثلي الهدنة، يزعمون أن إطلاق النار كان خطأ فرديا وسيقومون بالتحقيق في الأمر… ثم لا يفعلون شيئا.
أصر ممثلو الهدنة على المضي قدمًا عبر الحدود، وخشيت إذا تأخرت عنهم أن يعتبر ضباط الجيش العراقيون جبناء، لذلك فضلت الموت على تلقي مثل هذه الوصمة .
فتح الصهاينة نيرانهم الكثيفة علينا، مما دفع ممثلي الهدنة للانبط على الأرض، ولجأت إلى حفرة قريبة من موقعي ثم انبطحت فيها
اهتزت المنطقة التي كنا فيها بعدما سقطت قنابل ضخمة عليها، فخرجت من حفرتي وتوجهت إلى حفرة أخرى على بعد حوالي عشرة أمتار .
لم يمضِ وقتٌ طويلٌ بعد استقراري في الحفرة الجديدة حتى سقطت قنبلة هاون على حفرتي الأولى
توقف إطلاق النار بعد ربع ساعة، وأشكر الله على السلامة .
قال ممثلو الهدنة الذي تعرض أحدهم لجرح بليغ وتوفي بعدها بساعات:
حقًا، الصهاينة ليسوا إلا جبناء بلا شرف أو ضمير.
لماذا تركت حفرة الأولى وانتقلت إلى حفرتي الثانية؟
لا أزال لا أعرف حتى الآن، كما لو كانت يد قوية قد سحبتني من المكان الأول إلى المكان الثاني، ولم أستطع الردع أو المخالفة .
ربما يعدّ ما حدث في بغداد مؤخرًا لرجل معروف بمثابة دليل على أن دقة الحراسة على الأحياء والحيوانات الموجودة فيها.
هذا الرجل مشهور بأخلاقه العالية وتدينه، ومشهور بعلمه، وهو من أبرز رجال القضاء في الوقت الحالي، وقد كان وزيرللعدل في السابق .
قد تعرض للنكبة منذ عامين بسبب غرق ابنه الشاب، وكان هذا الابن الأكبر بين أولاده، وكان يُلقب به ويُنادى به من قِبَل الناس: أبا فلان .
كان هذا الرجل يقود سيارته بنفسه في إحدى ليالي بغداد، ويتجول بها ليلاً على طريق جسر الصرافية – في منطقة السكك الحديدية بجانب مطار المثنى في منطقة الكوخ .
يتواجد تقاطع بين خطوط السكك الحديدية والطريق العادية على هذه الطريق .
لم ينتبه الرجل إلى وجود القطار يتحرك على السكة الحديد، وقرر عبور تقاطع السكك الحديدية على الطريق .
عند عبوره التقاطع بسيارته، رأى القطار فجأة على بعد خطوات منه، فقرر العبور بسرعة كبيرة لتجنب الاصطدام
عندما تعطلت السيارة وأصبح مصيره الاصطدام بالقطار، بقي الشخص ينتظر الحادث المحتوم ويقول: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله)) .
اصطدمت السيارة بالقطار، وبعد قطع المسافة لمسافة مئة وخمسين متراً، تمكن سائق القطار من إيقافه، وهرع الناس إلى السيارة وصاحبها، ووجدوا السائق حياً ولم يصب بأي أذى، ووجدوا السيارة تعرضت لعطل طفيف .
كيف حدث ذلك ؟!.
عندما اصطدمت دعامة القطار الأمامية، التي تحتوي على رأسين مدببين مصنوعين من الحديد، بنوافذ السيارة الأمامية والخلفية، تم اختراق الزجاجتين ورفع السيارة أمام القطار .
واستمر القطار في حركته، وكانت السيارة معلقة على رأسي الدعامة الأمامية للقطار لمسافة مئة وخمسين مترًا، حتى تمكن سائق القطار من إيقافه عن الحركة .
وحدثني الرجل عن أمره ، فقال : إذا كانت السيارة تتحرك قدر أنملة إلى الأمام أو الخلف، فلن يصطدم رأس القطار بجسم السيارة التي تحتوي على هيكل حديدي، وسيتبقى بعض الأثر الخفيف على السيارة .
ومع ذلك، كانت السيارة موضوعة في موقع يبدو وكأنه تم إعداده بدقة، بحيث اصطدم جزء الدعامة الأمامية للقطار بنوافذ البابين الأماميين
والخلفية للسيارة، تمامًا كما يدخل الخيط في سم الخياط .
وقد حمل القطار سيارتي حتى استقرتا بعيدًا عن موقع الاصطدام، وعندها هرع الناس إلي لرؤية ما حدث .
فتحوا أبواب السيارة وأخرجوني محمولًا، ثم وقفوني قائمًا، وحركوا يدي ورجلي وبقية أعضائي، ويقولون: `ألم تتعرض لأي إصابات .
(( وأقول لهم : لا والله … لم أصب بشيء !! ))
(( ويقولون : ذلك غير معقول … )) .
حملوني قسرًا إلى المستشفى، وجاء الأطباء وفحصوا جميع أجزاء جسمي، وكان كل منهم ينادي بصوت عالٍ: `الحمد لله .
تعهد شخص ما بأنه سيعيد سيارته إلى منزله دون أن يتعرض لأي ضرر، باستثناء تحطيم زجاج البابين الأمامي والخلفي .
(( واليوم أتساءل مع الناس بكل مكان : أهذا ممكن ؟! … أهذا يصير)) ..
وقال له أحد الحاضرين : ((لا حارسَ كالأجلِ…)) صدقَ رسولُ اللهِ عليهِ أفضلَ الصلاةِ والسلامِ
في أثناء فراش الموت، تذكر خالد بن الوليد رضي الله عنه وقال: `ليس هناك ليلة أحب إلي من ليلة شدشة الجليد في سرية المهاجرين عندما تصبح بهم العدو. فاستعدوا للجهاد.` ثم أضاف: `شهدت مئة زحف أو أكثر، وكل بوصة في جسدي تحمل ضربة أو طعنة أو رمية، وها أنا الآن على فراش الموت كما يموت الأسد، فلا تناموا أعين الجبناء
الإيمان بالقضاء والقدر، والإيمان بأن النصر يأتي من عند الله، والإيمان بأن الحرب يمكن أن تكون إما شهادة أو نصر
هذا الإيمان هو الذي جعل العرب المسلمين سادة الدنيا وزعماء العالم .
نحن لسنا عربًا؛ بل نحن مسلمون، ويا للأسف على ما فاتنا من جانب الله..
قضاء السماء
قبل ثلاث سنوات، تم اكتشاف طفلة تبلغ من العمر أربع سنوات غارقة في مستودع المياه القذرة في إحدى الدور في حي الصليخ في بغداد .
روعت بغداد لهذه المأساة، وأصبحت حديث المجالس، ونشرت التفاصيل في الصحف والمجلات .
كانت الطفلة جميلة جدا، لديها بشرة بيضاء وشعر أصفر جميل ومجعد، كأنها صورة من لوحة فينوس .
وكانت أمها مدرسة في إحدى المدارس الابتدائية، وكان والدها مديرا لإحدى المدارس الإعدادية، وكانت في المنزل فقط خادمة تبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة، تلهو معها عندما تكون أمها بعيدة عن المنزل في المدرسة أو السوق .
كانت الطفلة وحيدة بدون والديها، وكانت سعادتهما في هذه الحياة تملأ المنزل بالفرح والبهجة .
عادت الأم إلى المنزل من مدرستها في الظهيرة، ولم تستقبلها ابنتها المدللة
وسط الضجيج المعتاد، دخلت إلى صالة المنزل بسرعة ووجدت الخادمة في المطبخ تنظف الأواني، فسألتها عن طفلتها، فادعت أنها كانت معها قبل لحظات..!.
دخلت الأم إلى غرفة المنزل وفحصت كل مكان، ولكنها لم تجد ابنتها. خرجت إلى الشارع وهي في حالة فقدان الوعي، تسأل الجيران والمارة عنها دون جدوى .
واتصل الوالدان بالشرطة ورجال الأمن، فقد قلبوا بغداد رأسا على عقب دون أن يعثروا على أي أثر للطفلة .
مرت الساعات، وتعاقبت الأيام، والطفلة غير معروفة المكان والمصير .
– هطلت الأمطار بغزارة، وتسربت المياه من أسطح المنزل وشرفاته، فتجاوز مستودع المياه القذرة .
عند فتح غطاء المستودع، اكتشف الطفلة البريئة تطفو فوق سطح الماء .
سارع رجال الأمن إلى المنزل وبدأوا التحقيق مرة أخرى .
كان غطاء المستودع ثقيلا بدرجة لا تقوى الطفلة على رفعه، فأشارت أصابع الاتهام إلى الخادم .
لكن لماذا اقترفت الخادمة فعلتها الشنيعة؟
قال والد الطفلة : إن الخادم يعاملها كابنته، يرعاها كما يرعى ابنته بالتساوي.
وقالت أم الطفلة : (إن الخادمة أمينة وتسلك طريقا مستقيما في حياتها، ولم تتعرض لأي شيء يؤثر على سمعتها سواء من قريب أو بعيد).
وقال الجيران : كانت العائلة ترعى الخادم برعاية مثالية، تتناول الطعام مع العائلة يدا بيد، وترتدي الثياب نفسها التي كانت ترتديها الطفلة، وتنام في نفس الغرفة التي تنام فيها الأم والطفلة .
كانت الأم تحرص على أن يجلس الخادم معها عندما تقوم بزيارة أو تستقبل زيارة .
وقال الوالدان : إنهما لا يشكان في الخادم، ولا يستطيعان أن يقترفا جريمة غرق الطفلة بشكل متعمد ومقصود!.
ولم يقتصر رجال الأمن على الاستماع فقط، بل أصروا على التحقيق بعمق .
وسأل أحدهم الخادم : (لماذا أغرقت الطفلة؟) فانفجرت الخادمة باكية منتحبة وأصرت على الإنكار .
وكان الأبوان يحميان خادمتهما ويصرون على براءتها .
وطلب رجال الأمن أن يأخذوا الخادم إلى مقر الشرطة للتحقق منه في التحقيق .
رفضت الخادمة وهربت مع والدة الفتاة وتمسكت بأطراف ثيابها، فعادت الأم وطلبت منهم ترك الخادمة وأمورها، لأنها تشك في نفسها ولا تثق في الخادمة على الإطلاق .
ولكن رجال الأمن أصروا على استصحاب الخادم إلى مقرهم وقالوا : عندما تتنازلون عن حقوقكم الشخصية، فإن الحق العام لا يمكن التنازل عنه .
– بدأ التبادل والمشادة بين رجال الأمن من جهة، وبين الوالدين من جهة أخرى، وفي النهاية اضطروا رجال الأمن إلى خطف الخادمة وهي تصرخ بأعلى صوتها وتنوح .
في مقر رجال الأمن، اعترفت الخادمة بأن والدها أمرها بأن تغرق الطفلة في مستودع المياه القذرة .
أنكر أبو الخادم أقوال ابنته وادعى أنها اعترفت خوفا من الضغط والتعذيب، كما أنها صغيرة ولا تدرك خطورة كلماتها .
قام رجال الأمن بمحاولات كثيرة واستخدموا جميع أساليب التحقيق دون أن يتراجع أبو الخادم عن إنكاره .
وعند عرض القضية على المحاكم، حكم على الخادم بالسجن خمس سنوات تقضيها في سجن الأطفال غير البالغين، حيث تقوم أخلاقها وتتعلم حرفة من الحرف .
وتم إصدار حكم ببراءة والدها، وغادر التوقيف بعد قضاء شهرين فيه .
وفي السجن اعترفت الخادم بكل شيء .
قبض والد هذه الفتاة مئة دينار من شابين شقيقين في المرحلة الإعدادية بسبب تهاونهما في الدروس وسوء سيرتهما .
والد الطفلة الغريق، الذي هو أيضا مدير تلك المدرسة، كان السبب في طرد الاثنين من المدرسة
أراد والد الطفلة تطبيق النظام بالحرف والروح، وكان يشعر بالمسؤولية الكاملة أمام رجال التربية والتعليم، وأمام أمته ووطنه، وعقيدته، وكان يشعر بكل ذلك قبل أي شيء آخر وفوق كل شيء آخر .
يتحمل المرء مسؤوليته أمام الله تعالى، ولذلك قرر فصل الشقيقين
لا يولي اهتمامًا لطلبات وأمنيات الراغبين والملتمسين .
عندما ييأس الطالبان من العودة إلى المدرسة، يتصرف والدهما بشكل غريب
أطلب من الخادم أن يحرق قلب أبي الطفلة مع أموالهما كما أحرق قلبيهما .
كان أبو الخادم ينام (أو يجلس) في نفس المدرسة، وكان الاثنان يعرفان بعضهما
ابنة المتحدث تعمل في دار المدير وقادرة على إنهاء حياة الابنة
إن قتلها سيحرق قلب المدير أكثر مما يحرق أي شيء آخر .
لكن المحاكم قضت ببراءة أبي الخادم، وتحكم المحاكم
استناداً إلى أقوال الشهود واعتراف المتهم .
في تلك القضية بالذات، لم يكن هناك شهود، وكان المتهم
لا يعترف بجريمته، ولا يمكنه الاعتراف بسبب العواقب القانونية المحتملة
إلى المشنقة ؟ .
صدر قرار من قضاء الأرض ولم يبقَ سوى قرار قضاء السماء .
خرج أبو الخادم من السجن وهو يستنشق عبير الحرية، ويحمل الأمل في قلبه
أن يتمتع بالمال الحرام ..
فما الذي حدث ؟ .
أُقيم حفل عائليٍ فرحًا بخروج والد الخادم من السجن، واستمر الاحتفال
حتى الهزيع الأخير من الليل .
قامت العائلة بإنفاق جزء من المال على الطعام والشراب في الحفل .
في صباح اليوم التالي، والد الخادم سقط مريضا لا يستطيع الوقوف
الحركة .
لجأت الأسرة إلى الأطباء ودفعوا رسوم العيادة والعلاج
ثمن الدواء .
استمر مرض الرجل لفترة طويلة، حتى وصل إلى أربعة أشهر ،
بسبب كثرة المال الحرام الذي تم إنفاقه، اضطرت العائلة إلى الاقتراض .
والد الخادم ذهب إلى المستشفى الحكومي الذي يعالج مجاناً ،
لأنه أنفق ماله ولم يعد قادرًا على استدعاء الأطباء .
كان يعاني من مرض السكر وارتفاع ضغط الدم والتدرن الرئوي ،
ثم أصيب بالزكام الحاد، بالإضافة إلى كل تلك الأمراض .
تعرض لارتفاع في درجة الحرارة، وتدهورت حالته، وكان يبدو وكأنه في المستشفى
شبحاً من الأشباح .
في المستشفى، ينتقل المريض من طبيب إلى طبيب ومن ممرضة إلى أخرى
ممرضة ، محمولاً على النقالة .
كان كل مريض يتلقى رعاية خاصة من الناس، ولكن هذا الأمر
الرجل كان يلقى التشفي والاشمئزاز .
كان الشائعات تتردد عنه في كل مكان، وكان الجميع يشير إليه عندما يراه
تُشير الإشارات إلى أنه يُتهم بقتل الطفلة ولا يستحق العطف والرحمة .
تم فحصه من قبل الطبيب المختص في المستشفى وتم تقديم الدواء اللازم له ،
وكان من ضمن الدواء إبرة بنسلين .
قامت الممرضة بتزويد زوجها بالإبرة وغادر معه المستشفى
الدار .
في الطريق، شعر بخدر في جسمه وتشوش في نبضات قلبه، ثمَّ
صرخ فجأة الطفلة … الطفلة …
وسألته زوجه : أية طفلة ؟ .
قال الرجل : ألا تراها؟ إنها تحتضنني بكل يديها على عنقي .
ومالت رأسه على كتف زوجه ببطء واحتقنت عيناه
وخفت صوته الذي كان يردد : الطفلة … الطفلة …
ثم فارق الحياة …
الخادم لا يزال في السجن الإصلاحي لقضاء عامين آخرين .
ووالدها دُفِنَ معلقًا باللعنات في القبر ..
وأمها في المنزل تعاني من الفقر وتعول طفلاً وثلاث بنات
وثلاث بناتها في سن الزواج، ولا أحد يتقدم لخطبتهن .
ذرَّع أبو الخادم تصرفاته الخاطئة بمصدر دخله غير المشروع، ولكنه لم يجنَ له بركة
ولأمثاله بالمرصاد .
إذا قصرت قضاء الأرض، فلن يقصر قضاء السماء {أفلا
تَذَكَّرُنَ } [ يونس : 3 ] ؟؟!! .
الصبر طيب
تخرج من كلية الحقوق ومارس المحاماة لفترة من الوقت، ثم
حصل على وظيفة كتابية في إحدى المحاكم، وكانت عمله في النظام القضائي
من أقضية لواء بغداد .
كانت المسافة بين مقر عمله في المحكمة والمدينة بعيدة
تبلغ مساحة بغداد لا يزيد عن ستين كيلومترًا،وكان يزور بغداد في أوقات الفراغ
نهاية الأسبوع : ينتقل من مكانه بعد انتهاء الدوام الرسمي في الظهر
في يوم الخميس، يصل فيصل إلى بغداد بعد ساعة واحدة بالسيارة ويقضي
يقضي مساء الخميس ويوم الجمعة في بغداد، ثم يعود إلى عمله فجر يوم السبت من كل أسبوع .
كان يقضي عطلته الأسبوعية مع عائلته في الكرادة الشرقية
إحدى ضواحي مدينة بغداد، يلبون احتياجاتهم ويرتب لهم
يقوم بتوفير ما يحتاجونه من طعام وملابس ومستلزمات أخرى، ويهتم بأمورهم
أكمل واجبات بيتك، وجهّز قلبك لمهامه الأساسية .
كان شابًا قويًا ووسيمًا وليس متزوجًا ولا يردعه أحد
تتضمن بعض الدين والأعراف أو التقاليد ارتياد مزالق الشيطان في الملاهي
كان له حانات ونوادي ليلية، وكان له أصحاب من نفس لدته يأمرونه
بالمنكر وينهونه عن المعروف .
والخلاصة : كان شابًا من شباب هذا العصر، بما في ذلك الأشرار
كثير ولكن قليل الخير، عقله فارغ من تعاليم الدين وجيبه ممتلئ
يمتلك المال والوقت الفراغ، وقد تعلم أن هذه هي متطلبات العصر
التحرر من الفضيلة والتظاهر بالرذيلة يعتبر تخلفًا عن العصر
الحضارة ، متمسكاً بالتخلف والجمود .
ما دام شباب أوروبا مائعين ومستهترين، فلابد من الاستمتاع
والاستهتار .
وصل بغداد يوم الخميس، وزار منزله ثم استراح فيه لفترة قصيرة، ثم
غادر إلى السوق (السراي) حيث بدأ جولته في السوق كالمعتاد .
يوجد في سوق السراي محلات لبيع الأقمشة ومكتبات للوراقين ،
يتكون معظم رواد المكتبات ومحلات الأقمشة من الرجال
أكثرهن من النساء .
توجد نساء يبيعن العطور في سوق السراي، ويطلق عليهن الكاسيات
العاريات ومن المحتشمات أيضًا, من كل جنس ولون: يقومن بشراء الأقمشة ويشاهدن القادمين والذاهبين من نفس جنسهن والجنس الآخر.
وشارع النهر الذي يتصل بسوق(السراي), معرض في طوله وعرضه للنساء المتبرجات, كأنهن من بنات الشياطين فتنة وإغراء, نزلن الأرض ليكن أعوانًا للشياطين وأحابيل لمكرهن وكأنهن لم يكتفين بسحر الشيطان, فأضفن من عندهم سحرًا جديدًا يعجز عنه الشيطان, ومكر إبليس ومكرن فكان مكرهن أعظم وأشد أثرًا وتأثيرًا!..
وفي سوق (السراي) حيث تباع الكتب، يقل رواد المكتبات عاما بعد عام، وتكاد وجوه الذين يرتادونه من هواة الكتب لا تتبدل إلا إذا مات أحدهم أو سافر إلى بلد آخر أو سكن بلدة أخرى.
في سوق (السراي) حيث يتم بيع الأقمشة، يتزايد عدد الزوار من الجنسين اللطيف والخشن عاما بعد عام، وتتغير وجوه الأشخاص الذين يزورونه وملابسهم تقريبا يوميا، وربما ليس زي الخنافس الذي يظهر تدريجيا في السوق آخر الأزياء المتألقة والتحدي التي تتجاوز كل تقاليد وتصنعات نبيلة.
وهكذا يقلل تأثير العقل في قسم المكتبات بسوق السراي، ويتزايد تأثير العاطفة في قسم الأقمشة.
سار الشاب بخطوات ثابتة في سوق السراي، يلتفت يمينا وشمالا، ويحصي كل شيء يدخل ويخرج منه، ثم عاد يمشي ببطء إلى بداية السوق.
لفتت انتباه امرأتين يتحدثان إلى صاحب محل لبيع الأقمشة وكانا يضحكان مع البائع ويناقشانه الحساب باسم. اقترب وسأل البائع عن نوع معين من القماش، وكانت حواسه تسمع بانتباه حديث المرأتين الجميلتين.
وتقدمت إحداهن نحوه وأرشدته إلى أفضل أنواع الأقمشة، وأخبرتها أنه يرغب في شراء هذه القماش لأجمل مخلوقة رأى في حياته، وأنه أحبها منذ النظرة الأولى..
واشترى القماش ودفع ثمنه, ثم طلب تغليفه وقدمه هاشًا باشًا إلى تلك المرأة, وهو يقول: أنتِ التي أحببتها لأول نظرة… وأنتِ.. وشكرته المرأة, ثم سارت هي وصاحبتها, وأومأت إليه أن يسير في أثرهما, حتى دخلتا دارًا من دور محلة( العاقولية), فالتفتت إليه المرأة وودعته بابتسامة مشرقة, وأشارت إليه بالانتظار.
وانتظرت قليلًا بالقرب من الدار, حتى خرجت إليه وهمست في أذنه: ستنتظره في هذا المنزل ظهر يوم غد الجمعة، ثم سيعود إلى مكانه الأصلي، وغادر صاحبنا موقعه وهو يهنئ نفسه على هذا الاكتشاف الثمين. وعاد إلى منزله مبكرا وهو سعيد القلب بسبب مغامرته، فسر بشرة أهله بقدومه المبكر بشكل غير معتاد، حيث كان يسهر ليلة الجمعة حتى آخر ساعات الليل.
وآوى إلى فراشه مبكرًا, بعد أن ترك أثرًا محمودًا في نفوس أهله, فقد كان لطيفًا معهم, كما أغدق عليهم الوعود المعسولة. وقال أبوه لأمه وهو يحدثها عن أمانيه في ابنها الشاب: “الحمد لله … يبدو أنه صحا من سكرته وأذعن للحق بعد امتناع, ولا بد لنا من الاستمرار على تشجيعه وحثه على الزواج”. وذابت الأم رقه, لأنها كانت تحلم بمستقبل سعيد.
وداعبت صاحبنا الأفكار والأماني على فراشه, وصاحب دقائق الليل البهيم يعدها عدًا, ولم يزر الكرى عينه, فلما سمع صوت أقدام في صحن المنزل تقترب رويدًا حتى أشرقت الشمس ترك فراشه, وملأ الدار غناء ونشيدًا ومداعبات. ولم يدرِ كيف يقضي الوقت ما بين صباح الجمعة وظهرها, وكان في كل لحظة يحملق في ساعته يستعجلها الحركة.
وقبل ساعة من حلول الموعد المرتقب, ارتدى أفخر ثيابه, وأطال الوقوف أمام المرآة ينظم شعره ويهندم مظهره, ثم تعطر بأفخم ما عنده من عطور, وكأنه عروس تزف لزوجها, فلما اطمأن إلى مظهره الرائع غادر داره ميممًا شطر دار حبيبته في محلة العاقولية. ووجد باب الدار مفتوحًا, فدخل الدار, وجال في أنحائها, فلم يجد أحدًا.
وعندما نزل السرداب وجد إحدى المرأتين اللتين رآهما في سوق(السراي) نائمة على سريرها الفخم, مرتدية غلالة( ) من اللاذ( ) تظهر من مفاتنها أكثر مما تخفي. لم تكن تلك المرأة النائمة هي التي كلمته أمس, ولكنه قال لنفسه: من يدري؟! لعلهما قد اتفقتا على ما حدث.. ولعلها في مكان آخر من هذه الدار…
وجلس شخصنا مذهولا بجمال المرأة النائمة، وربما زاد النوم جمالها وجاذبيتها، وإذا كانت جميلة ونائمة، فإن جمالها يستمر ولا ينام.
وبينما كان الرجل مبتهجا بالجمال الحالم، كان يتخيل ويتمنى، ويعيش لحظاته السعيدة في نشوة وحبور، حتى رأى رجلا يقف على رأسه في السرداب، مفتول العضلات وطويل القامة.
صاحبنا فرح فجأة، ثم جاءت الصحوة وأصابته الارتباك، وبدأ يتنفس بسرعة وقلبه ينبض بسرعة أيضا. كاد أن يفقد توازنه ويسقط مغشيا عليه، ولكن الرجل القادم واجهه في لحظة واحتضنه ترحيبا حارا، وساعده في التغلب على ما يعانيه بعض الشيء.
وفي رفق ودماثة دعاه الرجل إلى مصاحبته إلى غرفته الخاصة في الدار, وفي تلك الغرفة أعاد الرجل تحياته وترحيبه, وحدثه حديثًا قصيرًا أذهب عنه الروع كله, وجعله يطمئن على مصيره كل الاطمئنان. وتركه الرجل في الغرفة, وقصد زوجه في السرداب, ثم أيقضها وطلب إليها أن تحضر الطعام. وتناولا طعامًا شهيًا, تخللته أحاديث طلية شهية, ثم تناولا الفاكهة والحلوى والشاي. وسأل الرجل صاحبنا: أتحسن لعبة النرد؟ ثم جاء بالنرد وأخذا
كانوا يلعبون بشغف وشوق شديدين، حتى سمعا المؤذن ينادي لصلاة المغرب. واستمروا في اللعب لفترة أخرى حتى منتصف الليل، ثم اعتذر الرجل وذهب إلى غرفة مجاورة، وعاد إلى صاحبنا وهو يحمل مسدسا به سبع رصاصات كافية لنقل سبعة أرواح إلى العالم الآخر.
كان صاحب الدار موظفًا كبيرًا, وكان معروفًا ببعد نظره ورجاحة عقله واتزانه وتمسكه بالخلق القويم. وكان موضع ثقة معارفه من موظفين وغير موظفين, وكان يملأ الأعين قدرًا وجلالًا. وكان يعرف زوجه معرفة عملية, فقد عاشا معًا تحت سقف واحد سبع عشرة سنة, لم يعكر صفوها خلاف أو نزاع. ولم يكن صاحبنا يعرف الرجل ومكانته ولا منزلته الاجتماعية, فقد كانا من جيلين متباعدين, وكان من محلة (الكردة الشرقية) البعيدة عن العاقولية.
وضع الرجل بهدوء مسدسه على المنضدة ورفع النرد وألقاه على الأريكة المجاورة وكان هادئا كل الهدوء، متزنا كل الاتزان، لم تفارق وجهه ابتسامته الحلوة، كأن كل ما حوله اعتيادي لا غبار عليه. وظهرت الاستغراب والعجب على صاحبنا، فهو يرى المسدس أمامه على المنضدة، ولكنه يجد الرجل الحصيف هادئا باسما. ومرت لحظات على صاحبنا كأنها سنوات، لا يعرف ما يفعل وكيف يتصرف.
وساد الصمت الثقيل جو الغرفة، فأراد صاحبنا أن يقول شيئاً، ولكن لسانه لم يسعفه بكلمة واحدة. لقد تبلد دماغه، ونسي لغته، وخارت قواه، وأصبح يرتعش كأنه يعاني برداً شديداً رغم أنه في فصل الصيف الجهنمي – صيف بغداد. وقطع الرجل الصمت الثقيل بقوله: «ذهب وقت الراحة، وجاء وقت الجد…لن ينقذك مما أنت فيه غير الصدق، فما الذي جاء بك إلى هذه الدار؟».
وأشار رجل يحمل مسدسه باتجاه صديقنا المنتظر نهايته، حيث سيتم قتله بالرصاص، وتعثر صديقنا وتردد، وجف حلقه ولم يستطع الثبات وحكى قصته
المنزل كامل وصاحبه يستمع بانتباه شديد.
ونادى الرجل زوجه، فجاءت تمشي على استحياء، فسألها: أين كنت أمس؟.
صرحت بأنها كانت في سوق السراي مع فلانة، زوجة أحد موظفيه، وأنها اشترت أقمشة وعادت إلى دارها.
استمع الرجل إلى زوجته، ثم طلب منها أن تجهز نفسها لزيارة طارئة لصديقتها التي قابلتها في الأمس.
ذهب الرجل إلى تلك الدار برفقة زوجته وصديقهما، واستقبلهم الزوج بترحاب واستغراب، وبعد التحية والحديث، تفحص الرجل الأقمشة التي اشترتها زوجة صديقه وعرف كل شيء، ثم غادر تلك الدار، وعلى طريق العودة، سأل صديقه عن مكان سكنه، وأصر على مرافقته بسيارته إلى منزله.
وفي باب دار صاحبنا، تقدم رجل يلتمس نصيحته وينحني على يده كأنه في حلم مرعب طويل، وطلب صاحبنا من الرجل أن ينصحه، فقال له: `لا تتبع مثل هذه الأفعال أبداً… فمن يتجسس على عورات الناس تجسس الله على عورته، ومن يتجسس الله على عورته فسيفضحه ولو كان في أعماق الأرض.
على الطريقِ إلى منزلهِ، قَصَّ زوجهُ قصةً وكانت فكرتها خاليةً من أي شيءٍ.
تعلم الشاب درسه، حيث كان والديه الصالحان يدعوان الله في كل صلاة بأن يهديا ابنهما إلى الطريق الحق والصلاح، فاستجاب الله سبحانه وتعالى دعواتهما بهذه الصورة الغريبة.
وحين استقر صاحبنا في داره بين أبويه، قال لهما: صرح الشاب قائلاً: «أحتاج إلى الزواج بشكل عاجل، فلم أعد أطيق حالة العزوبية والتشرد وعدم الاستقرار». وعبر الأبوان عن استغرابهما قائلين: كيف يمكن أن يحدث هذا المعجزة؟.
في عطلة الأسبوع القادم، قام صاحبنا بالاتصال بصاحب المنزل وطلب منه المساعدة في اختيار شريك حياة له، وأخبره أنه كأب له بعد وفاة والده. وابتسم صاحب المنزل بابتسامة عريضة ودعاه لتناول الغداء في منزله ظهر الجمعة التالية. وخلال وجبة الغداء، قابل صاحبنا فتاة جميلة ومتوازنة على مائدة الطعام.
ووجد تلك الشابة تخاطب الرجل:بابا!!.
وقال صاحبنا للرجل: وجدتها!.
وقال الرجل: هي لك…!.
وتزوجا بعد أسبوع، فوجد زوجها أفضل الأزواج.
ما زال صاحبنا يعتني بعمه الذي أصبح ابنه بعد وفاة ابنه.
الصبر طيب …والعجلة من الشيطان.
العقيد
اضطرت ظروف صحيّة لي دخول أحد المستشفيات في بيروت لإجراء الفحوص الطبية خلال صيف سنة 1972م، وحاولت جاهداً الحفاظ على خصوصيتي، ولكن الأخبار السيئة تنتشر بسرعة، في حين لا ينتشر الخبر الجيد بنفس السرعة.
وعادتني جزء من أصدقائي يعاتبون، وكانوا يحملون معهم هدايا تعتاد تقديمها للمرضى، مثل الورود والحلوى. وكان من جيراني بعض المرضى ضباطا متقاعدين وغير متقاعدين، فقررت التعرف عليهم وزيارتهم ومواساتهم، وكانت طريقتي في ذلك تقديم جزء من الحلوى والزهور التي لدي لهم، وتقديم الباقي من الهدايا للممرضين، ومع كل هدية، كنت أتمنى لهم الشفاء العاجل وأعدهم بزيارة قريبة. وحرصت على إرسال أكبر باقة من الزهور إلى ضابط لا ينا
الليل ولا ينيم أحداً، وحين سألتني الممرضة: هل تعرف ماضيه؟.” قلت: “لا، لكنه لا ينام ليلا ولا يدعني أنام، ربما يهتم بنفسه ويراعاني بعدما استلمت هدية منه!” قالت الممرضة: “لا، ليس هكذا!”، وأخبرتني أنه في المستشفى منذ عدة أشهر وهو زائر دائم للمستشفى، لا يغادره أياما ليقضي وقتا مع عائلته، ويعود إليه بعد فترة من الزمن ليستريح فيه. وقالت: “ولكن يبدو أنه سينتهي قريبا ويحصل على الراحة والاستجمام.
وزرت العقيد المريض، وكان يسمي نفسه: (الكولونيل)، وكان أهله يسمونه (الكولونيل)، وكان الاطباء والممرضون والممرضات يسمونه: (الكولونيل)!. كان ضابطاً قديماً، عمل في الشرطة الفرنسية، يوم كان الفرنسيون يحتلون لبنان، ولم تكن المصطلحات العسكرية عُرّبت، وكانت المصطلحات الفرنسية هي السائدة، وكانت المصطلحات العربية هي المسودة.
كان عقله ومنطقه وذاكرته وقلبه يعملون بشكل صحيح، ولكنه ابتُلي بعدة أمراض مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري وتصلب الشرايين، وهذا كل ما تبقى له في الحياة
تؤدي إنسداد الشرايين وتسمم الدم وتلف الكبد والكلى وتشوه عضلات الساقين والجسم… إلخ .
كان يستيقظ نهارًا، ولكنه كان يتعرض للانهيار في الليل، حتى كان يبدو كأنه لا يعيش في الليل .
كان يصرخ في الليل من شدة الألم أحيانًا، ويستغيث بأحد الممرضين أو الممرضات في أوقات أخرى، وكان يستخدم سلاحين في صراخه: صوته والجرس الكهربائي .
فإذا جاء الممرض أو الممرضة ولم يجدوا لديه مطلب، يعودون من حيث أتوا، لكنهم لا يكادون يصلون إلى مكانهم حتى يستدعيهم العقيد مرارًا وتكرارًا حتى يشرق الفجر .
كان عندما يخفض صوته، يستخدم الجرس الكهربائي ويضعه في جيبه ويلمس زر الجرس بشدة، ويستمر في الضغط على الزر حتى يأتي الممرض أو الممرضة .
كانت رغبته أن تبقى الممرضة معه ليلاً بأكمله، وكذلك الممرض، ولكن بعد لحظات من وجودهما في غرفته، نسيا طلبه وانصرفا، واضطر للنداء ورنين الجرس .
وحين زرته ، أجهش بالبكاء ، وحدثني بقصته ، فقال : كنت في
كنت أحمل رتبة كولونيل في الشرطة الفرنسية، وكنت أقود الشرطة المحلية، وكانت بيروت تخاف مني، وكان اسمي يخيف الجريئين .
كان الفرنسيون يعتمدون عليّ وكنت أخلص لهم بكل الإخلاص وكنت أقوم بواجبي على أحسن ما يمكن .
في حالة عجز الفرنسيين عن الكشف عن إحدى الجرائم، كنت أطلب أن يحضروا المتهم إلي، وكنت أستخلص الاعترافات منه بالقوة .
كنت في الماضي لا أشفق على أحد وأمارس أنواعًا مختلفة من التعذيب، وكان المجرمون ينهارون ويعترفون بما يريده الفرنسيون أو ما يريده أنا، وكانوا يحاكمون ويعاقبون على حسب جرائمهم .
ذهب ومضى يسرد لي 84 نوعًا من أنواع التعذيب التي كان يمارسها مع المتهمين، فاقشعر بدني من قسوة سرده وتعذيبهم .
ثم قال : أعاني اليوم من عذاب الله، حيث تم سقوط العديد من الأبرياء في المحاكم وتعرض الصالحين للعذاب من أجل إرضاء الحكام الفرنسيين .
انتقل الفرنسيون بلا عودة، وظل العقيد يتعرض للعنات .
حتى أقرب الناس له مثل زوجه وأولاده وأقاربه، لا يحبونه ويتمنون من الله أن يموت، لأنه يعذبهم بصراخه وشكواه .
ولكنه يعذب نفسه أكثر مما يعذب الآخرين .
رحل أسياده وظل مكروهًا من الناس ومكروهًا من أهله .
كان يعذب ضحاياه في الليل، وسوف يعذبه الله في الليل أيضًا .
كانت أعضاء المعتقلين تتساقط بسبب التعذيب في الماضي، أما اليوم فتتساقط أعضاءه تدريجياً .
يجب أن يحفظ الله لسانه، ليتحدث الناس عن أعماله الإجرامية .
حافظ على وعيه، ليتمكن من إخبار الناس بالآثام التي ارتكبها .
يجب الحفاظ على وعيه ، ليتذكر ويندم ، بدلاً من الندم طوال الوقت .
– بقي قلبه ينبض حتى يتحمل عذابات الدنيا، ولكن عذاب الآخرة هو الأشد والأقسى .
هل يعتبر الناس ؟ .
وصدق الله العظيم : ( وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ) [ إبراهيم : 45 ] .