ادب

قصة الأصمعي والبقال والجزرة

حكى أبو الفرج التنوخي في كتابه الفرج بعد الشدة عن بعض المواقف التي مر بها بعض العلماء والسابقون من شدائد ومحن أنعم الله عليهم بعدها بالفرج والمنح. ومن بين هذه القصص، قصة الأصمعي مع البقال الذي كان يسكن معه في نفس الشارع، وكان يتعرض لمضايقات منه. وكيف تغيرت الحالة للأصمعي وتدارك الأمور لصالحه.

الأصمعي طالب علم فقير:
يقول الأصمعي كنت بالبصرة أطلب العلم، وأنا فقير، وكان على باب زقاقنا بقّال، إذا خرجتُ باكرا يقول لي إلى أين؟ فأقول إلى فلان المحدّث. وإذا عدت مساء يقول لي: من أين؟ فأقول من عند فلان الإخباريّ أو اللغويّ. ‏ ‏ فيقول البقال: يا هذا، اقبل وصيّتي، أنت شاب فلا تضيّع نفسك في هذا الهراء، واطلب عملا يعود عليك نفعه وأعطني جميع ما عندك من الكتب فأحرقها، فوالله لو طلبت مني بجميع كتبك جزرة، ما أعطيتُك! فلما ضاق صدري بمداومته هذا الكلام، صرت أخرج من بيتي ليلا وأدخله ليلا، وحالي، في خلال ذلك، تزداد ضيقا، حتى اضطررت إلى بيع ثياب لي، وبقيت لا أهتدي إلى نفقة يومي، وطال شعري، وأخلق ثوبي، واتّسخ بدني.

الفرج بعد الشدة:
يقول الأصمعي: وبينما أنا مازلت مترددا في أمري، جاءني خادم للأمير محمد بن سليمان الهاشمي وقال لي: `أجب الأمير`. فسألته: ما يفعل الأمير برجل وصل به الفقر إلى هذا الحد؟ عندما رأى حالتي السيئة ومظهري البائس، عاد وأخبر محمد بن سليمان بما حدث، ثم عاد إلي بملابس ثقيلة وحقيبة بها ألف دينار، وقال: `أمرني الأمير بأن يدخلك الحمام ويرتديك هذه الملابس، ويترك الباقي معك، ويطعمك من هذا الطعام، ويبخرك، حتى تعود نشاطك، ثم سأقللك.

‏فسررت سرورا شديدا، ودعوتُ له، وعملتُ ما قال، ومضيت معه حتى دخلت على محمد بن سليمان، فلما سلّمتُ عليه، قرّبني ورفعني ثم قال: يا عبد الملك، قد سمعت عنك، واخترتك لتأديب ابن أمير المؤمنين، فتجهّز للخروج إلى بغداد،‏ فشكرته ودعوت له، وقلت: سمعًا وطاعة، سآخذ شيئا من كتبي وأتوجّه إليه غدًا.‏

الأصمعي في بغداد:
يكمل الأصمعي: ‏وعدت إلى داري فأخذت ما احتجت إليه من الكتب، وجعلتُ باقيها في حجرة سددتُ بابها، وأقعدت في الدار عجوزا من أهلنا تحفظها،‏ فلما وصلت إلى بغداد دخلت على أمير المؤمنين هارون الرشيد، قال: أنت عبد الملك الأصمعي؟ ‏قلت: نعم، أنا عبد أمير المؤمنين الأصمعي، قال أعلم أن ولد الرجل مهجة قلبه، وها أنا أسلم إليك ابني محمدا بأمانة الله، فلا تعلمه ما يُفسد عليه دينه، فلعله أن يكون للمسلمين إماما.

‏قلت: السمع والطاعة، فأخرجه إليّ، وحُوِّلْتُ معه إلى دار قد أُخليت لتأديبه، وأجرى عليّ في كل شهر عشرة آلاف درهم، فأقمت معه حتى قرأ القرآن، وتفقّه في الدين، وروي الشعر واللغة، وعلم أيام الناس وأخبارهم، واستعرضه الرشيد فأُعجب به وقال: أريد أن يصلي بالناس في يوم الجمعة، فاختر له خطبة فحفِّظْه إياها، فحفّظتُه عشرا، وخرج فصلى بالناس وأنا معه، فأعجب الرشيد به وأتتني الجوائز والصلات من كل ناحية، فجمعت مالًا عظيمًا اشتريت به عقارًا وضياعًا وبنيت لنفسي دارًا بالبصرة.

العلم ينتصر على المال:
وبعدما مرت فترة طويلة وازدادت الفوضى، طلبت إذنا من الرشيد للانحدار إلى البصرة، وقد أذن لي. وعندما وصلت إلى هناك، توجهت إلى سكانها لتحية وجههم، وبدأوا يروون لي أخبار نعمتي. لاحظت وجود تاجر بينهم، كان يرتدي عمامة متسخة وثوبا قصيرا. حين رآني، صاح قائلا: `عبد الملك!` ضحكت من غبائه وطريقة حديثه التي كان يتحدث بها إلي، ثم قلت له: `أيها الرجل! إن كتبي قد وصلتني بشيء أفضل من الجزرة، ووالله إنها كذلك   

المستفاد من القصة:
العلم ينتصر على المال، وهذه حقيقة أكدها لنا القرآن الكريم فكان يهتم دائمًا بأصحاب العقول والتدبر وليس  بأصحاب المال، فالعلم قد يجلب لك المال والمنزلة العالية الكريمة التي تجلب لك المال، أما المال فلا يستطيع شراء العقل حتى تستطيع تحصيل العلم فيه، وكذلك فإن المال قد يزول أما العلم فلا يزول أبد الدهر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى