شرح وصية زهير بن جناب الكلبي ” يا بَنِيَّ قد كَبُرَتْ سِنِّي “
تعريف الشاعر زهير بن جناب الكلبي
زهير بن جناب بن هبل الكلبي هو الاسم الكامل له. كان زهير زعيم قبيلة بني كلب وشاعر ومحارب عربي في عصر الجاهلية. اشتهر زهير بشكل واسع وانتشرت سيرته الذاتية بفضل قصصه الشبه أسطورية. عاش زهير في أوائل القرن السادس، وقام بقمع تمرد قبائل تغلب وبكر، حيث أسر قادتهم، بما في ذلك كليب بن ربيعة. كما دمر الضريح الوثني لقبيلة القطفان، الذي كان ينافس الكعبة في مكة في ذلك الوقت. يقال إن زهير قتل نفسه انتحرا بشرب النبيذ، ولكن ذلك لم يؤثر على استمرارية أسطورته ومكانته. حيث ظهرت من نسله قبيلة بني حارثة بن جناب. وجاءت حاريثة بن جناب بن قيس بن امرؤ القيس بن جابر بن زهير. ولعب عدد كبير من أفراد عائلة جناب أدوارا قيادية في التاريخ الإسلامي.
شعر زهير بن جناب
تميز زهير بقصائده وأبيات شعره التي لا تزال تثير الدهشة حتى الآن، فلم يأتِ مثله في الشعر، ومن أشهر أبيات قصائده:
قصيدة لَقَد عَلِمَ القَبائِلُ أَنَّ ذِكري
لَقَد عَلِمَ القَبائِلُ أَنَّ ذِكري
بَعيدٌ في قَضاعَةَ أَو نِزارِ
وَما إِبِلي بِمُقتَدَرٍ عَلَيها
وَما حِلمي الأَصيلُ بِمُستَعارِ
سَتَمنَعُها الفَوارِسُ مِن بَلِيٍّ
وَتَمنَعُها فَوارِسُ مِن صُحارِ
وَيَمنَعُها بَنو القَينِ بنِ جَسرٍ
إِذا أَوقَدتُ لِلحَدَثانِ ناري
وَيَمنَعُها بَنو نَهدٍ وَجَرمٌ
إِذا طالَ التَجاوُلُ في الغِوارِ
بِكُلِّ مُناجِدٍ جَلدٍ قُواهُ
وَأَهيَبُ عاكِفونَ عَلى الدُوارِ
قصيدة تَبّاً لِتَغلِبَ أَن تُساقَ نِساؤُهُم
تَبّاً لِتَغلِبَ أَن تُساقَ نِساؤُهُم
سَوقَ الإِماءِ إِلى المَواسِمِ عُطَّلا
لَحِقَت أَوائِلُ خَيلِنا سَرَعانَهُم
حَتّى أَسَرنَ عَلى الحُبَيِّ مُهَلهِلا
إِنّا مُهَلهِلُ ما تَطيشُ رِماحُنا
أَيّامَ تَنقُفُ في يَدَيكَ الحَنظَلا
وَلَّت حُماتُكَ هارِبينَ مِنَ الوَغى
وَبَقيتَ في حَلَقِ الحَديدِ مُكَبَّلا
فَلَئِن قُهِرتَ لَقَد أَسَرتُكَ عَنوَةً
وَلَئِن قُتِلتَ لَقَد تَكونُ مُرَمَّلا
قصيدة سائِل أُمَيمَةَ عَنّي هَل وَفَيتُ لَه
سائِل أُمَيمَةَ عَنّي هَل وَفَيتُ لَه
أَم هل منَعتُ مِنَ المَخزاةِ جيرانا
لا يَمنَعُ الضَيمَ إِلّا ماجِدٌ بَطَلٌ
إِنَّ الكَريمَ كَريمٌ أَينَما كانا
لَمّا أَبى جيرَتي إِلّا مُصَمِّمَةً
تَكسو الوُجوهَ مِنَ المَخزاةِ أَلوانا
مِلنا عَلَيهِم بِوِردٍ لا كِفاءَ لَهُ
يَفلِقنَ بِالبيضِ تَحتَ النَقعِ أَبدانا
إِذا اِرجَحَنّوا عَلَونا هامَهُم قُدُماً
كَأَنَّما بِالبيضِ تَحتَ النَقعِ أَبدانا
كَم مِن كَريمٍ هَوى لِلوَجهِ مُنعَفِراً
قَدِ اِكتَسى ثَوبُهُ في النَقعِ أَلوانا
وَمِن عَميدٍ تَناهى بَعدَ عَثرِتِه
تَبدو نَدامَتُهُ لِلقَومِ خَزيانا
إِنَّ بَني مالِكٍ تَلقى غَزِيَّهُمُ
في الزادِ فَوضى وَعِندَ المَوتِ إِخوانا
قصيدة لَم تَصبِر لَنا غَطَفانُ لَمّا
لَم تَصبِر لَنا غَطَفانُ لَمّا
تَلاقَينا وَأُحرِزَتِ النِساءُ
فَلَولا الفَضلُ مِنّا ما رَجَعتُم
إِلى عَذراءَ شيمَتُها الحَياءُ
وَكَم غادَرتُمُ بَطَلاً كَمِيّاً
لَدى الهَيجاءِ كانَ لَهُ غَناءُ
فَدونَكُمُ دُيوناً فَاِطلُبوها
وَأَوتاراً وَدونَكُمُ اللِقاءُ
فَإِناَّ حَيثُ لا يَخفى عَلَيكُم
لَيوثٌ حينَ يَحتَضِرُ اللِواءُ
فَخَلّى بَعدَها غَطَفانُ بَسّاً
وَما غَطَفانُ وَالأَرضُ الفَضاءُ
فَقد أَضحى لِحَيِّ بَني جَنابٍ
فَضاءُ الأَرضِ وَالماءُ الرَواءُ
وَيَصدُقُ طُعنُنا في كُلِّ يَومٍ
وَعِندَ الطَعنِ يُختَبَرُ اللِقاءُ
نَفَينا نَخوَةَ الأَعداءِ عَنّا
بِأَرماحِ أَسِنَّتُها ظِماءُ
وَلَولا صَبرُنا يَومَ التَقَينا
لَقينا مِثلَ ما لَقِيَت صُداءُ
غَداةَ تَعَرَّضوا لِبَني بَغيضٍ
وَصِدقُ الطَعنِ لِلنَوكى شِفاءُ
وَقَد هَرَبَت حِذارَ المَوتِ قَيسٌ
عَلى آثارِ مَن ذَهَبَ العَفاءُ
قصيدة أَبَنِيَّ إِن أَهلِك فَإِنّي
أَبَنِيَّ إِن أَهلِك فَإِنّ
ي قَد بَنَيتُ لَكُم بَنِيَّه
وَجَعَلتُكُم أَبناءَ سا
داتِ زِنادُكُم وَرِيَّه
مِن كُلِّ ما نالَ الفَتى
قَد نِلتُهُ إِلّا التَحِيَّه
كَم مِن مُحَيٍّى لا يُوا
زيني وَلا يَهَبُ الرَعِيَّه
وَلَقَد رَأَيتُ النارَ لِلسُ
لّافِ تُوقَدُ في طَمِيَّه
وَلَقَد رَحَلتُ البازِلَ ال
وَجناءَ لَيسَ لَها وَلِيَّه
ولقد عَدَوتُ بِمُشرَفِ الطَ
رَفَينِ لَم يَغمِز شَظِيَّه
فَأَصَبتُ مِن حمرِ القَنا
نِ مَعاً وَمِن حُمرِ القَفِيَّه
وَنَطَقتُ خَطبَةَ ماجِدٍ
غَيرِ الضَعيفِ وَلا العَيِيَّه
وَالمَوتُ خَيرٌ لِلفَتى
وَليَهلِكَن وَبِهِ بَقِيَّه
مِن أَن يُرى الشَيخَ البَجا
لَ وَقَد يُهادى بِالعَشِيَّه
جَدَّ الرَحيلُ وَما وَقَف
تُ عَلى لِميسَ الأَرأَشِيَّه
وَلَقى ثَوائي اليَومَ ما
عَلِقَت حِبالُ القاطِنِيَّه
حَتّى أُوَدِّيَها إِلى ال
مَلِكِ الهُمامِ بِذي الثَوِيَّه
قَد نالَني مِن سَيبِهِ
فَرَجَعتُ مَحمودَ الحَذِيَّه
وصية زهير بن جناب الكلبي
الوصية في العصر الجاهلي هي نوع من أنواع الفنون الأدبية، وتشكل شعبة من شعب النثر العربي. وتعني الوصية ما يتم وصيته به من قبل شخص ما قبل وفاته، وتبدأ بالمقدمة ثم يتم ذكر موضوع الوصية. وفي النهاية، تكون مقسمة إلى عدة أقسام تتضمن أفكارا واضحة وخالية من الغموض وعهودا يتخذها صاحب الوصية على أبنائه أو الشخص المقصود بالوصية. ومن أبرز ما يميز الوصية هو أسلوبها المقنع والحكيم في الكلمات المختارة والعظة. وبدأ زهير وصيته بتمهيد مقنع، حيث قال إنه طاعن بالسن، وبالتالي كبير في السن، مجرب وحكيم، لذلك يحق له أن ينصح، ولا يجب على المستمعين سوى الإصغاء له.
تعتبر وصية زهير بن جناب الكلبي ” يا بَنِيَّ قد كَبُرَتْ سِنِّي ” واحدة من أفضل ما قيل في فن الوصايا، فهى تضم الكثير من الحكم والمبادئ التي يجب أن يتعامل بها الإنسان في حياته، وتتضمن هذه الوصية أقوال زهير بن جناب لأبنائه بعد خبرته الطويلة في الحياة، فكما قيل عن زهير أنه عاش عمراً طويلاً وكانت حياته مليئة بالكثير من التجارب والأحداث المثيرة للأهتمام حيث خاض عدداً كبيراً من الحروب، فضلاً عن تجارب الحياة التي جعلته قادراً على تكوين خبرة كافيه من أجل نُصح أبنائه لحياة مستقيمة.
في عهد زهير، قد أوصى أبناؤه بعدد كبير من التوجيهات المناسبة لأي زمان ومكان. طلب منهم عدم الخوف الشديد من المصائب، وأخبرهم أن المصائب هي جزء لا يتجزأ من الحياة. لا يمكن للإنسان أن يعيش حياة خالية من التحديات والأزمات. بدلا من الاستسلام لهذه المصائب والخوف من نتائجها، يجب أن يتحملوها ويعملوا بجد لمواجهتها بأنفسهم دون الاعتماد على الآخرين أو الهروب منها. حذر زهير أبناؤه من السخرية من محن الآخرين، وأخبرهم أنهم سيمرون بمحن أنفسهم إذا سخروا من غيرهم. كما نصحهم بأنه مهما حاولوا الهروب من مصائب الزمن وكوارثه، فإنهم سيواجهون الكوارث في أي مكان يذهبون إليه. وعزا ذلك إلى أنها جزء لا يتجزأ من الحياة، ولا يوجد حياة خالية من السقوط والتعثرات. ولكن الأهم أن يكون الإنسان يثق بالله ويؤدي واجباته ويحاول قدر استطاعته أن يحمي نفسه ويبتعد عن الأذى. قال زهير لأبنائه في وصيت
يا بني، لقد كبرتُفي السن ووصلتُ إلى سنٍّ يتطلّب الحذر، فقد علّمتني التجارب الحكمة وأن الأمور تتطلّب الاختبار، لذا احفظوا ما أقول واتبعوه.
احذر الانخداع بالخور أثناء المصائب والتواكل في النوائب، فذلك يدعو إلى الحزن والتشمت بالعدو والظن السيء بالرب.
وإِيَّاكم أَنْ تكونوا بالأحداثِ مُغْتَرِّينَ، ولها آمنينَ، ومنها سَاخرينَ؛ فإِنَّه ما سَخَرَ قومٌ قطُّ إِلاَّ ابتُلُوا؛ ولكنْ تَوَقَّعُوها؛ فإنما الإنسانُ في الدّنيا غَرَضٌ تَعَاوَرَهُ الرُّماةُ، فَمُقَصِّرٌ دونَه، ومُجَاوِزٌ لِمَوضِعِه، وواقِعٌ عن يَمِينِه وشَمَالِهِ، ثم لا بدَّ أنَّه مُصِيْبُه”