سبب نزول الآية ” وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن “
قال الله تعالى { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } [سورة الأحقاف: 29].
سبب نزول الآية
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: هبطت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلو القرآن وكان هناك تسعة منهم، وأحدهم كان يلفت الأنظار، فقالوا: انصتوا، فقال النبي: صه، فنزلت هذه الآية في ذمهم: { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين إلى أولئك في ضلال مبين } [سورة الأحقاف: 29-32].
تفسير الآية ابن كثير
ذكر أن الزبير روى: `عندما أرسلنا إليك مجموعة من الجن ليستمعوا إلى القرآن` قال: `بنخلة`. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء في الجنة، وكادوا أن يكونوا عليه لبدا. وروى الحافظ البيهقي في كتابه “دلائل النبوة” عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: `ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رأاهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بعض أصحابه إلى سوق عكاظ، وقد حجبت الشياطين عن سماع أخبار السماء، فأرسلت عليهم الشهب. فعادت الشياطين إلى قومها وقالوا: `ما بالنا؟` فقالوا: `تم حجب أخبار السماء عنا وأرسلت علينا الشهب`. فقالوا: `لا يمكننا الوصول إلى أخبار السماء إلا بالذهاب إلى أقصى نقاط الأرض والنظر إلى ما يحدث بيننا وبين أخبار السماء`.
ثم انطلقوا يسافرون في جميع أنحاء الأرض، يبحثون عن معجزات السماء والأرض. وعندما وصل هؤلاء الأشخاص الذين اتجهوا إلى تهامة حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في سوق عكاظ، واستمعوا لتلاوة القرآن، قالوا: هذا هو الشيء الذي يفصل بينكم وبين روائع السماء. وعندما عادوا إلى قومهم، قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجيبا يهدينا إلى الحق وآمنا به، ولن نشرك بربنا أحدا” [سورة الجن: 1-2]. ثم أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم الآية التي تقول: “قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن” [سورة الجن: 1]. فقد أوحى الله إليه بكلام الجن [رواه البيهقي ورواه البخاري ومسلم بنفس المعنى].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نزلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن تحت نخلة. عندما سمعوه، قالوا: انصتوا. فأجابهم: صحيح. كانوا تسعة، وكان أحدهم زوبعة. فأنزل الله عز وجل: `وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا أنصتوا. فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين – إلى – أولئك في ضلال مبين` [سورة الأحقاف: 29-32]. وحسب رواية ابن عباس، يتضمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذا الوقت، بل سمعوا تلاوته ثم عادوا إلى قومهم. ثم في وقت لاحق، جاءوه وفدا بعد وفد، قوما بعد قوم، وفرقة بعد فرقة.
قال الحافظ البيهقي: هذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمت حاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ القرآن عليهم ولم يرهم، ثم بعد ذلك دعاهم داع من الجن فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عز وجل. روى الإمام مسلم، عن عامر، قال: سألت علقمة عن شهادة ابن مسعود رضي الله عنه ليلة الجن، فقال علقمة: سألت ابن مسعود رضي الله عنه عن الليلة التي فقدنا فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لم نحضر شهادته ليلة الجن، ولكنا كنا معه ذلك الليل وفقدناه، فبحثنا عنه في الأودية والشعاب، وعندما بات بعضنا في ليلة بات فيها قوم، قيل لنا: هل تطير؟ هل تقتل؟ فبقينا مع البشر تلك الليلة، وفي الصباح عاد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: «جاءني داع من الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن». ثم قادنا في الصباح لنرى آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه عن الزاد، فقال: «كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أفضل من أن يكون لحما، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم». وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم» [رواه الإمام مسلم في صحيحه].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بت الليلة أقرأ على الجن واقفاً بالحجون» [أخرجه ابن جرير]. طريق أُخْرى : قال ابن جرير، عن ابن شهاب، عن أبي عثمان بن شبة الخزاعي – وكان من أهل الشام – قال: إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو بمكة: (من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل)، فلم يحضر منهم أحد غيري، قال، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خط برجله خطاً، ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق حتى قام، فافتتح القرآن، فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، حتى بقي منهم رهط ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر، فانطلق فتبرز، ثم أتاني فقال: «ما فعل الرهط؟» فقلت: هم أولئك يا رسول الله، فأعطاهم عظماً وروثاً زاداً، ثم نهى أن يستطيب أحد بروث أو عظم [أخرجه ابن جرير، ورواه البيهقي وأبو نعيم بنحوه].
وعن قتادة في قوله تعالى: عندما قمنا بإرسال فريق من الجن لك، استمعوا إلى تلاوة القرآن. وقد ذكر لنا أن الجن تم إرسالهم من نينوى، وعندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أيا منهم يرغب في اتباعه، تقدموا واتبعوه. وحدث ذلك مرتين، ثم تقدموا للمرة الثالثة. وقال رجل: `يا رسول الله، هذا شخص لديه ندبة.` فقام ابن مسعود -رضي الله عنه- واتبعه، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم شعابا تسمى شعب الحجون وخط على الأرض ليثبتهم به. وأشعرت النسور بالهيبة وهي تحلق في السماء، وسمعت ضجيجا عاليا حتى خفت على النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قرأ القرآن. وعندما عاد النبي صلى الله عليه وسلم، قلت له: `يا رسول الله، ما هو الضجيج الذي سمعته؟` فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم: `كانوا يتنازعون في قتيل، فقضيت بينهم بالحق.
هذا يشير إلى أنه (صلى الله عليه وسلم) ذهب إلى الجن قصدا، وتلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عز وجل. الجن الذين التقاهم في نخلة كانوا جنا من نينوى، والجن الذين التقاهم في مكة كانوا جنا من نصيبين. وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي: كان أبو هريرة (رضي الله عنه) يتبع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويحضر له الماء ويساعده في حاجاته الشخصية. فأدركه يوما وقال له: `ما هذا؟`، فقال: `أنا أبو هريرة`، فقال صلى الله عليه وسلم: `أحضر لي أحجارا أستنجي بها ولا تحضر لي عظما أو روثة`. فأحضرت له أحجارا في ثوبي ووضعتها بجانبه حتى انتهى وقامت لأتبعه، فقلت: `يا رسول الله، ما بال العظم والروثة؟` فقال صلى الله عليه وسلم: `جاءني وفد جن من نصيبين يسألونني عن الطعام، فدعوت الله تعالى لهم ألا يجتازوا عظما أو روثة إلا وجدوها طعاما`. [رواه البخاري في صحيحه].
وقال سفيان الثوري، عن ابن مسعود رضي الله عنه: كانوا تسعة، واحد منهم زوبعة، وأتواه من أصل نخلة، وفي رواية أنهم كانوا على ستين راكبا، وقيل إنهم كانوا ثلثمائة، فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرار وفادتهم عليه صلى الله عليه وسلم. ومن مؤشرات ذلك ما قاله البخاري في صحيحه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حيث قال: “ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشيء قط إني لأظنه هكذا، إلا كان كما يظن،” بينما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالسا، فجاءه رجل جميل، فقال: “لقد أخطأ ظني، أو أن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم،” ودعا له، فأخبره ذلك، فقال الرجل: “ما رأيت كاليوم أستقبل به رجلا مسلما.” فقال عمر رضي الله عنه: “فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني به.” فقال الرجل: “كنت كاهنهم في الجاهلية،” فقال عمر: “صدقت،” وأضاف: “بينما كنت نائما عند آلهتهم، جاء رجل بعجل، فذبحه، وصرخ به صارخ لم أسمع صارخا أشد صوتا منه، يقول: `يا جليح، أمر نجيح رجل فصيح`، يقول: `لا إله إلا الله`، فوثب الناس، فقمت ولم أبرح حتى أعلم ما وراء ذلك، ثم نادى: `يا جليح، أمر نجيح رجل فصيح`، يقول: `لا إله إلا الله`، فلما انصرفوا قلت: `هذا نبي`، وهذا لفظ البخاري ورواه البيهقي بنفس الصياغة.
وقوله تبارك وتعالى: وعندما صرفنا إليكم طائفة من الجن الذين كانوا يستمعون القرآن، فحضروه، قالوا: `استمعوا`، وهذا كان أدبا منهم. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال: `ما بال أراكم ساكتين؟ إن الجن كانوا أفضل منكم ردا، فكلما قرأت عليهم هذه الآية: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} [الرحمن:13]، قالوا: `ولا بشيء من آلائك أو نعمك يا ربنا نكذب، ولك الحمد.`