تفسير ” ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا “
{ ولقد ابتلينا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم تاب، وقال: رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد بعدي، إنك أنت الوهاب. فسخرنا له الريح بأمره تجري حيث أراد، وسخرنا له الشياطين، من كل بناء وغواص وآخرين مقيدين في الأصفاد. هذا هو عطاؤنا، فامنحه النعمة أو أمسكه بلا حساب. وإن له عندنا لمنزلة عالية وحسن مآب } [سورة ص: 34-40]
تفسير الآيات ابن كثير :
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } أي اختبرناه بأن سلبناه الملك، { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا } رويت عدة روايات مطولة عن موضوع فتنة سليمان وكلها إسرائيليات، ومن أغربها وأنكرها ما رواه ابن أبي حاتم أن سليمان عليه السلام أراد أن يدخل الخلاء فأعطى الجرادة خاتمه وكانت أحب نسائه إليه، فجاءها الشيطان بصورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي، فظنته سليمان فأعطته إياه، فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين.. وكل هذه القصص لا تصح لأنها من الإسرائيليات وقد ذكرها ابن كثير وبيّن غرابتها ونكارتها، ولذلك ضربنا صفحاً عنها.
وقال ابن عباس والحسن وقتادة: يعني شيطانا، ثم اناب أي عاد إلى ملكه وسلطانه وأبهاه. وقد ذكر اسم ذلك الشيطان بأنه صخرا، وقيل: آصف. قال: رب اغفر لي وهب لي ملكا لا يصلح لأحد من بعدي. أي: لا ينبغي لأحد من بعدي أن يستولي عليه. والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكا لا يوجد لأحد من البشر بعده نظير له، وهذا هو ما يتضح من سياق الآية. وبهذا تأتي الأحاديث الصحيحة التي رواها الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري في تفسير هذه الآية، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: `إن عفريتا من الجن هاجمني البارحة – أو كلمة مماثلة – ليمنعني عن الصلاة، فمكنني الله تبارك وتعالى منه، وأردت ربطه بسارية من سواري المسجد حتى يراه الجميع. فتذكرت قول أخي سليمان عليه الصلاة والسلام: `رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي`. فأجابه الروح بتراجع.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: `أعوذ بالله منك`، ثم قال `ألعنك بلعنة الله` ثلاث مرات، وبسط يده كأنه يتناول شيئا. بعدما انتهى من الصلاة، سألناه: يا رسول الله، سمعناك تقول شيئا في الصلاة لم نسمعه من قبل، ورأيناك تبسط يدك. فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم: `إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليضعه في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة`، ولم يتأخر في الرد ثلاث مرات. ثم أردت أن أمسكه، ولكن بفضل دعاء أخينا سليمان، أصبح مقيدا يلهو به الأطفال في المدينة.
ذكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قام للصلاة الصبح، وكان أنا خلفه فأخطأ في القراءة، فلما انتهى من صلاته قال: “لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيده، فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين إصبعي هاتين – الإبهام والتي تليها – ولولا دعوة أخي سليمان لأصبحت مربوطا بسارية من سواري المسجد، يتلاعب به الأولاد في المدينة. فمن استطاع منكم ألا يحول بينه وبين القبلة شيئا، فليفعل
فلما عقر سليمان عليه السلام الخيل غضبا لله عز وجل، عوضه الله بما هو خير منها، وأسرع الريح التي تجري بأمره، ولذلك قال الله تعالى: “فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب”، وقال الحسن البصري: “أي حيث أراد من البلاد.” وقال الله تعالى: “والشياطين كل بناء وغواص”، أي بعضهم يعمل في الأبنية الضخمة من محاريب وتماثيل وغيرها، والبعض الآخر يعمل كغواصين في البحار لاستخراج اللؤلؤ والجواهر والأشياء الثمينة التي لا توجد إلا في البحار.
{ وآخرين مقرنين في الأصفاد } أي الآخرين الذين يتمتعون بالثقة والقوة ويرتدون الأغلال والأكبال والذين تمردوا وعصوا وامتنعوا عن العمل وأبوا، أو أساءوا في أفعالهم واعتدوا على الآخرين، وقوله تعالى: { هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب } أي هذا الذي أعطيناك من السلطة الكاملة والسيطرة الكاملة كما طلبت، فأعط ما تشاء وامنع ما تشاء، لا يوجد حساب عليك، أي مهما فعلت فإنه جائز لك.
تم التثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختار المنزلة الأولى بين أن يكون عبدا رسولا، أو أن يكون ملكا نبيا يعطي من يشاء ويمنع من يشاء بدون حساب أو جناح، بعد استشارة جبريل عليه السلام. فأوصى جبريل عليه السلام الرسول بالتواضع واختيار المنزلة الأولى، لأنها تعتبر أرفع قدرا عند الله عز وجل وأعلى منزلة في الآخرة، وعلى الرغم من أن المنزلة الثانية وهي النبوة مع الملك كانت عظيمة أيضا في الدنيا والآخرة، إلا أن الله تعالى أشار إلى أن منزلة سليمان عليه السلام كانت ذات حظ عظيم عند الله يوم القيامة، عندما ذكر ما أعطاه الله من المال والقوة في الدنيا، وأشار إلى أن له في الآخرة لزلفى وحسن مآب.