تفسير ” وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة “
وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا، إنهم استكبروا في أنفسهم وتجبروا بغرور كبير يوم يرون الملائكة، لا يكون للمجرمين في ذلك اليوم أي خير، ويقولون: `حجرا محجورا`. وقد جزيناهم بما عملوا من الأعمال، فجعلناها هباء مبعثرا. أما أصحاب الجنة في ذلك اليوم، فسيكون مستقرا خيرا ومقيلا أجمل” [سورة الفرقان: 21-24]
تفسير الآيات:
{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}: يقول تعالى مخبراً عن تعنت الكفار في كفرهم وعنادهم في قولهم: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ}: أي بالرسالة كما تنزل على الأنبياء، كما أخبر الله عنهم في الآية الأخرى {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:124]، ويحتمل أن يكون مرادهم ههنا {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ}: فنراهم عياناً فيخبرونا أن محمداً رسول الله، كقولهم: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء:92].
ولهذا قالوا: {أو نرى ربنا}: ولهذا قال الله تعالى: {لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا}، وقوله تعالى: {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا}: أي عندما يرون الملائكة في ذلك اليوم، لن يكون لديهم أي بشارة، بل سيقولون “حجرا محجورا”، وهذا ينطبق أيضا على وقت الموت، حيث تبشر الملائكة الكافر بالنار، وتقول الملائكة له عند خروج روحه: “أخرجي أيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث، أخرجي إلى السموم والحميم والظل المحموم”، ولكن النفس الخبيثة ترفض الخروج وتتفرق في الجسد، فيضربونها، كما قال الله تعالى: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} [الأنفال: 50]، وقال تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم} [الأنعام: 93]، أي يضربونهم بأيديهم
ولهذا قال في هذه الآية الكريمة: يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين”، وهذا يختلف عن حال المؤمنين عند وفاتهم، فإنهم يبشرون بالخيرات والمسرات، ويقول الله تعالى: “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون”، وفي الصحيح عن البراء بن عازب: إن الملائكة تقول لروح المؤمن: “أخرجي أيتها النفس الطيبة في الجسد الطيب، إن كنت تعمرينه، أخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان”، وقال آخرون: بل المراد بقوله “يوم يرون الملائكة لا بشرى” هو يوم القيامة، وقاله مجاهد والضحاك وغيرهما، ولا يتعارض ذلك مع ما سبق، فإن الملائكة في هذين اليومين، يوم الممات ويوم المعاد، تتجلى للمؤمنين والكافرين، فتبشر المؤمنين بالرحمة والرضوان، وتخبر الكافرين بالخيبة والخسران، فلا بشرى يومئذ للمجرمين
{وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا}: وتقول الملائكة للكافرين: `حرام محرم عليكم الفلاح اليوم، وأصل الحجر المنع، ومنه يقال: حجر القاضي على فلان إذا منعه التصرف، إما لسفه أو صغر أو نحو ذلك؛ ومنه يقال للعقل حجر لأنه يمنع صاحبه عن تعاطي ما لا يليق، والغرض أن الضمير في قوله: {ويقولون}: عائد على الملائكة، هذا قول مجاهد وعكرمة والضحاك واختاره ابن جرير. وقوله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل}: هذا يوم القيامة حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من الخير والشر، فأخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شيء، وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله، فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية فهو باطل.
ولهذا قال تعالى: أدرجنا هذه الآية {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} في إفساد أعمال الذين لم يتبعوا الحق والعدل، فجعلناها كالغبار المتطاير الذي يتفرق ويتناثر. وقد قال علي رضي الله عنه أن هذا الهباء هو مثل شعاع الشمس الذي يدخل الكوة، وقال الحسن البصري إنه مثل شعاع الضوء في كوة أحدنا، حتى لو حاول الإمساك به فلن يستطيع، وقال ابن عباس إنه يشير إلى الماء المهراق، وقال قتادة إنه يشير إلى الأوراق التي تتطاير بالريح كورق الشجر. وقد حذرت هذه الآية من إفساد الأعمال التي لا تتبع الحق والعدل، حتى تصبح كالشيء التافه الحقير الذي لا يقدر صاحبه عليه شيئا.
كما قال تعالى: يذكر الله في هذا النص بأن أعمال الذين كفروا بربهم شبيهة بالرماد الذي يتطاير بشدة بفعل الرياح، وذلك في سياق تحذير الأمم الماضية من المعاصي والكفر. كما يتحدث النص عن فعل الكفار الذين يظنون أن أعمالهم صالحة، ولكنها في الواقع باطلة وتشبه السراب في الصحراء، فإذا حان الوقت ليتقدموا بها أمام الله لا يجدون فيها أي قيمة. وفي المقابل، يشير النص إلى أن أصحاب الجنة هم المنتصرون في اليوم الآخر، وهم الذين سيدخلون الجنة وينعمون بالحياة السعيدة والأمنة فيها، ويصف النص هؤلاء بأنهم في مقام أمين حسن المنظر طيب المقام، وسيبقون في الجنة مدى الأبد.
يصف هذا المقطع حال أهل النار ومصيرهم في الآخرة، حيث ينتقلون إلى الدرجات السفلى من النار ويعانون أنواعا مختلفة من العذاب والعقوبات، ويبين أن منزلهم سيء ومقامهم بئيس، ويشير إلى أن أهل الجنة هم الذين سيحظون بأفضل المستقرات والأماكن، نظرا لأعمالهم الصالحة.
وقال سعيد بن جبير: يخفف الله من حساب الناس في يوم القيامة نصف النهار، فيقال لأهل الجنة في الجنة ولأهل النار في النار، وقد قال الله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا}، وقد قال قتادة: أي مأوى ومنزل، وقد ذكر ابن جرير عن سعيد الصواف أنه بلغه أن يوم القيامة يخفف المؤمنون فيه عن إقامتهم حتى يكونوا مثل الوقت الذي يستغرقه العصر حتى غروب الشمس، وأنهم يتنقلون في رياض الجنة حتى ينتهي الله من الناس، وذلك بحسب قول الله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا}.