تفسير ” وألنا له الحديد أن اعمل سابغات “
وقد منحنا داوود فضلا من عندنا، حتى جعل الجبال يسبحن معه، وجعل له الحديد يعمل به، وصنع له الدروع. فاعملوا بجد واصنعوا الخير، فإني بما تعملون بصير. وفي هذه الآية من سورة سبأ، ذكرت بعض صفات النبي داوود، مثل صناعته للدروع وصوته الحسن.
تفسير الآية ابن كثير :
{ وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا } يخبر الله تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام مما آتاه من الفضل المبين وجمع له بين النبوة والملك المتمكن، والجنود ذوي العَدد والعُدد، وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم الذي كان إذا سبح به تسبح معه الجبال الراسيات، الصم الشامخات، وتقف له الطيور السارحات، والغاديات والرائحات، وتجاوبه بأنواع اللغات.
في الصحيح، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وهو يقرأ من القرآن خلال الليل، فوقف واستمع لتلاوته. ثم قال صلى الله عليه وسلم: `لقد أعطي هذا صوتا جميلا كما أعطيت آل داود أداة موسيقية جميلة.
ومعنى قوله تعالى : العبارة `أوبي` قالها ابن عباس ومجاهد وغيرهم، والتأويب في اللغة يعني الرجوع، فأمرت الجبال والطيور أن يعودن معه بأصواتهن، وقوله تعالى: `وألنا له الحديد` قال الحسن البصري وقتادة: كان الحديد لا يؤذيه ولا يصيبه بأذى، بل كان يقطعه بيده كأنه خيوط، ولذلك قال تعالى: `أن اعمل سابغات` وهي الدروع، وقال قتادة: إنه كان أول من صنع الدروع من الخلق، وكانت قبل ذلك صفائح، وقال ابن شوذب: كان داود عليه السلام يصنع درعا في كل يوم ويبيعها بستة آلاف درهم، ألفين له ولأهله وأربعة آلاف درهم يطعم بها بني إسرائيل خبز الحوارى [أخرجه ابن أبي حاتم].
هذا إرشاد من الله تعالى لنبيه داود عليه السلام في تعليمه صنعة الدروع، فقدر في السرد لا تدق المسمار فيقلق في الحلقة، ولا تغلظه فيقصمها واجعله بقدر، والسرد هو حلق الحديد.
وذكر الحافظ ابن عساكر أن وهب بن منبه قال إن داود عليه السلام كان يخرج متنكرا، فيستفسر الركاب عن هويته وسيرته، ولم يجدوا سوى الثناء عليه في عبادته وسيرته وعدله عليه السلام. ثم قال وهب: وفي إحدى المرات، بعث الله تعالى ملكا لرجل، فلقيه داود عليه الصلاة والسلام، وتحدث معه بنفس الأسلوب، فقال الملك: إنه هو خير الناس لنفسه ولأمته، ولكن هناك خاصية يفتقدها، فسأله داود: ما هي؟ فأجاب: إنه يأكل ويطعم عائلته من أموال المسلمين، أي من بيت المال. فعند تلك اللحظة، صلى داود الله عز وجل أن يعلمه عملا يجعله يكفي نفسه ويغني عائلته، فأعطاه الله عز وجل معرفة صنعة الحديد وصنع درع، وكان داود أول من عمل الدروع.
فقال الله تعالى: العمل بسابغات وقدر يعني استخدام مسامير الحلق في صنع الدروع. وقد كان يعمل درعا، وعندما اكتمل عمله في الدرع، كان يبيعها ويتصدق بثلث ثمنها ويشتري به ثلثا مما يكفيه وعياله. وكان يحتفظ بالثلث الباقي ويتصدق به يوما بعد يوم حتى يعمل درعا آخر. وقال: إن الله تعالى أعطى داود صوتا جميلا لم يعطه أحد غيره، فعندما يقرأ الزبور كانت الحيوانات البرية تتجمع حوله حتى يتمكن من أخذها بأعناقها دون أن تهرب.
وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج إلا على أصوات مختلفة، وكان صوته صلوات الله عليه قويا جدا، وعندما يبدأ في قراءة الزبور، يبدو كمن ينفخ في المزامير، ولقد أعطيت سبعين مزمارا ليضعها في حلقه، وقوله تعالى: `واعملوا صالحا` يعني فيما أعطاه الله تعالى من النعم، `إني بما تعملون بصير` يعني أنه يراقب أعمالكم وأقوالكم، ولا يخفى عليه شيء من ذلك.