تفسير ” ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه “
لم يجعل الله للرجل قلبين في جوفه، ولم يجعل أزواجكم اللواتي تظاهرون منهن أمهاتكم، ولم يجعل أدعياؤكم أبناءكم. هذا هو قولكم بأفواهكم، ولكن الله يقول الحق وهو الذي يهدي السبيل. فادعوهم باسمائهم الحقيقية، فإن ذلك هو الأنسب عند الله. وإذا لم تعرفوا آباءهم، فإن إخوانكم في الدين وأولياؤكم. وليس عليكم ذنب فيما أخطأتم به، ولكن الذنب يكون إذا كانت نياتكم متعمدة، والله غفور رحيم.” [سورة الأحزاب: 4-5.]
سبب نزول الآية { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } :
نزلت آية فيما يتعلق بزيد بن حارثة، رضي الله عنه، الذي كان مولى للنبي صلى الله عليه وسلم. قد اعتمده النبي صلى الله عليه وسلم قبل نبوته، وكان يعرف باسم زيد بن محمد. وأراد الله تعالى أن ينقض هذا الربط وهذا النسب بقوله العزيز: `أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم`. وكما قال تعالى: `ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين` [سورة الأحزاب: 40].
ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل من قريش يدعى ذو القلبين، وهو جميل بن معمر الجمحي، وزعم أن لديه قلبين، كل منهما ذو عقل واف. فأنزل الله تعالى هذه الآية كرد على زعمه. وقال عبد الرزاق، نقلا عن الزهري، في تفسير قوله: `ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه`، قال: بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة، حيث ضرب له مثل يقول فيه شخص آخر: `ليس ابن رجل آخر إبنك`. وهكذا صرح مجاهد وقتادة وابن زيد بأن الآية نزلت في زيد بن حارثة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
تفسير الآيات ابن كثير :
يقول تعالى موطئاً قبل المقصود المعنوي، أمراً معروفاً حسيا، وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ولا تصير زوجته التي يظاهر منه بقوله أنت عليَّ كظهر أمي أما له، كذلك لا يصير الدعيُّ ولداً للرجل إذا تبناه فدعاه ابناً له، فقال: { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } ، كقوله عزَّ وجلَّ: { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ } [المجادلة : 2]
هذا هو المقصود بالنفي: `وما جعل أدعياءكم أبناءكم`. وهنا يقول: `ذلكم قولكم بأفواهكم`، وهذا يعني أن تنسبوا إليهم أقوالا لا تعني بالضرورة أنهم أبناء حقيقيون، بل هم أشخاص مخلوقون من رجل آخر، ولا يمكن أن يكون لهم والدين كما لا يمكن للإنسان أن يكون له قلبان. والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، والأمر الأكثر عدلا عند الله هو أن تدعوهم لآبائهم. هذا هو تغيير يلغي ما كان في بداية الإسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب، وهم الأدعياء. فأمر الله سبحانه وتعالى بإعادة نسبهم إلى آبائهم في الواقع، وأن هذا هو العدل والحق والبر. روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال: إن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تعرفه الناس باسم زيد بن محمد حتى نزلت الآية `ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله` [رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي].
كانوا يعاملونهم كأبنائهم في كل شيء في الخلوة وبين الأقارب وغيرهم، ولهذا سمح الله سبحانه وتعالى بزواج زوجة الدعي وزواج الرسول صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش بعد طلاقها من زيد بن حارثة، وقال تبارك وتعالى: “لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا”. وأيضا قال تبارك وتعالى في آية التحريم: “وأحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم” كإحراز وتوضيح لزواج زوجة الدعي، وذلك لأنها ليست من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما دعوة الأطفال ليسوا من نسل الزوج في الحضور للتكريم والتقدير، فهذا ليس ممنوعا في الآية، وهذا ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما عن زيارته للنبي صلى الله عليه وسلم مع أغيلمة بني عبد المطلب لرمي الجمرات في منى، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم طفلا فقال: “يا أبا القاسم، إن هذا الطفل له أم”، فقال له أغيلمة: “إنه لا أم له”. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “فأنت له أمه”، وهذا الحديث رواه أحمد وأهل السنن باستثناء الترمذي
قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك رضي الله عنه: “يا بني، إن لم تعرفوا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم”، وذلك لأن الله أمر برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم إذا كانوا يعرفونهم، وإلا فهم إخوان في الدين ومواليهم، وهذا يعني تعويض ما فاتهم من النسب. ولهذا قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: “أنت مني وأنا منك”، وقال لجعفر رضي الله عنه: “أشبهت خلقي وخلقي”، وقال لزيد رضي الله عنه: “أنت أخونا ومولانا.
{ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } وقد جاء في الحديث: إن الرجل الذي يدعي نسبا غير حقيقي لغير أبيه وهو يعلم ذلك، فإنه يكون كافرا”، وهذا تعزيز وتهديد شديد، وتحذير قوي من الادعاء بنسب مزيفة. ولهذا قال تعالى: “إذا دعوا إلى آبائهم فهو أولى عند الله، فإن لم يعرفوا آباءهم فإخوانكم في الدين وأولياؤكم”، ثم قال تعالى: “وما عليكم فيما أخطأتم به من خطئكم”، وهذا يعني إذا ادعيتم نسبا لشخص ليس أبوه بالحقيقة، فهذا خطأ، ولكن الله قد جعل الأمر صعبا ولطالما وضع الحرج في الخطأ، ورفع الاثم عن المخطئين كما أشار إليه في قوله: “ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين” [البقرة: 286].
وفي الحديث: يقول الحديث الشريف: “إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر” وقد رواه البخاري عن عمرو بن العاص مرفوعا. وفي حديث آخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى رفع عن أمتي الخطأ والنسيان والأمر الذي يكرهون عليه”. ويقول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: “وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمدت قلوبكم، وكان الله غفورا رحيما”، أي أن الخطأ لا يحمل ذنبا إلا لمن ارتكبه بقصد، كما يقول الله في سورة المائدة: “لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم.
وروى الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل معه الكتاب، وفيما أنزل عليه كانت آية الرجم، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، ثم قال: كنا نقرأ أيضا: `ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم` [أخرجه الإمام أحمد في المسند]، وفي حديث آخر: `ثلاثة في الناس كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم`.