تفسير الحديث الشريف « كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفس »
هذا حديث مشهور عن قبول التوبة، حتى ولو ارتكب الإنسان ذنبا كبيرا، طالما أنه لم يشرك بالله، لأن الله تعالى لا يغفر الشرك، ويغفر سائر الذنوب لمن يشاء، وهو بشرى لجميع المسلمين يدعوهم إلى التوبة والابتعاد عن الذنوب، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، تطلبا للجنة.
نص الحديث:
عن الإمام مسلم أن نبي الله صل الله عليه وسلم قال: «كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على راهب فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم ومن يحول بينه وين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فآتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة»
ما يستفاد من الحديث:
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري وفي الحديث مشروعية التوبة من جميع الكبائر حتى من قتل الأنفس، ويحمل على أن الله تعالى إذا قبل توبة القاتل تكفل برضا خصمه، وقال الحافظ أيضًا: قال عياض: وفيه أن التوبة تنفع من القتل كما تنفع من سائر الذنوب، ومن الوارد في ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48]، وحديث عبادة بن الصامت ففيه بعد قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} وغير ذلك من المنهيات «فمن أصاب من ذلك شيئًا فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه» [متفق عليه].
ويقول الحافظ بن حجر: ويتم أخذ هذا الحديث أيضا في اعتبارنا كتخفيف لهذه الأمة بالنسبة للأمم السابقة، فمع قبولهم لتوبة القاتل، فإن مشروعية توبتهم لنا أولى، وقد قال الله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر:53].
في ضوء الحديث:
أعطى الحديث نموذجين للبشر نموذج الترهيب وهو الراهب ونموذج الترغيب وهو العالم، فالراهب على قدر معرفته وعلمه لم يصل إلى إدراك رحمة الله الواسعة مما جعله يفتي الرجل بأنه لا مجال للتوبة لعظم ذنبه وقتله تسعة وتسعين رجل، بينما العالم أدرك رحمة الله الواسعة فبشره بمغفرة الله وطلب منه ترك بلده وأرضه فإنها أرض سوء والمقصود من ذلك انه لو كان فيهم خيرًا لما صار به الحال ولوجد من ينصحه ويعينه على التوبة، وهو ما آخذ به الرجل وسعى في طريق الخلاص من الذنوب وفي طلب المغفرة لذلك نال المغفرة والرحمة من أوسع أبوابها.