تفسير الآية ” يا ليت قومي يعلمون “
{قيل له: ادخل الجنة.” فأجاب قائلا: يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين، وما أنزلنا على قومه من جند من السماء، وما كنا منزلين إلا صيحة واحدة. فإذا هم يفسرون الآية “يا ليت قومي يعلمون” خامدون } [سورة يس: 26-29
تفسير الآيات القرطبي :
هو حبيب بن مري وكان نجارًا، لما قال لقومه { اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا } [يس:20 – 21] رفعوه إلى الملك وقالوا : قد تبعت عدونا؛ فطول معهم الكلام ليشغلهم بذلك عن قتل الرسل، إلى أن قال: { إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ } فوثبوا عليه فقتلوه. قال ابن مسعود: وطؤه بأرجلهم حتى خرج قُصْبُه من دبره، وألقي في بئر وهي الرس وهم أصحاب الرس. وفي رواية أنهم قتلوا الرسل الثلاثة.
وقال السدي : رشقوه بالحجارة وهو يقول: `اللهم اهدِ قومي حتى يقتلوه`، وقال الكلبي: حفروا له حفرة وألقوه فيها، ثم ردمواه بالتراب حتى مات، وقال الحسن: حرقوه حرقًا، ثم علقوا جثته على سور المدينة، ودفنوه في سور أنطاكية، وهذا ما ذكره الثعلبي.
وقال القشيري : قال الحسن، عندما أراد الناس قتله، رفعه الله إلى السماء، فهو الآن في الجنة، ولا يموت إلا بفناء السماء وهلاك الجنة، وإذا أعاد الله الجنة، سيدخلها. ويقال: نشروا أجزاء جسده بالمنشار حتى خرج من بين رجليه، ولكن روحه خرجت فقط إلى الجنة، ودخلها. وهذا ما يعنيه قول: “قيل ادخل الجنة”. عندما شاهدها، قال: “يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي”، أي بمغفرة ربي له. ويقول الجماعة: معنى “قيل ادخل الجنة” هو أن الجنة واجبة له، لأنه يستحق دخولها بعد البعث.
قلت : والظاهر من الآية أنه لما قتل قيل له ادخل الجنة. قال قتادة : أدخله الله الجنة وهو فيها حي يرزق؛ أراد قوله تعالى: { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [آل عمران:169] على ما تقدم في آل عمران بيانه. والله أعلم.
قوله تعالى: {قال يا ليت قومي يعلمون} وهو مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قول عند ذلك الفوز العظيم الذي هو {بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين}، وقرئ {من المكرمين} وفي معنى تمنيه قولان: أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته. الثاني تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله. وقال ابن عباس: نصح قومه حيا وميتا. ورفعه القشيري فقال: وفي الخبر أنه عليه السلام قال في هذه الآية إنه نصح لهم في حياته وبعد موته.
وقال ابن أبي ليلى: ثلاثة من سباق الأمم لم يكفروا بالله حتى لو لمحة عين، وهم علي بن أبي طالب الذي هو أفضلهم، ومؤمن آل فرعون، وصاحب يس، وهم الصديقون، حيث ذكرهم الزمخشري مرفوعي الذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذه الآية تنبيه عظيم ودلالة على وجوب كظم الغيظ والتحمل من أهل الجهل، والترحم على من دخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتعاطف معهم والتضحية من أجل إنقاذهم، وتفريغ الغضب والشماتة والدعاء عليهم. ولاحظ كيف تمنى الخير لقتلته، والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة الأصنام، فلما قتل حبيب غضب الله له وعجل النقمة على قومه، فأمر جبريل فصاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم، وهذا ما قاله الله: “ولم ننزل على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين”، أي لم ننزل عليهم رسالة أو نبيا بعد قتل حبيب.
قال قتادة ومجاهد والحسن. قال الحسن : تعني هذه الرقمية أن الملائكة هم الذين ينزلون بالوحي على الأنبياء، و يمكن أن يكون المقصود ب “الجند” هنا هم العسكريون. وقد قال بعض الناس أنني لم أرسل جنودا أو جيوشا أو عساكرا لقتل الشعوب السابقة، بل كان كل ما فعلته هو أنني دمرتهم بصوت واحد. وقد صرح بذلك ابن مسعود وغيره. وعندما قلت “ولم نكن نزلين”، فهذا يعني أنني أهلكتهم بصوت واحد بعد هذا الرجل أو بعدما رفعهم إلى السماء. وقد قال بعض الناس أن هذه العبارة تعني أنه لم يتم إرسال الجنود من السماء في يوم بدر والخندق، ولكن تم إرسال ريح وجنود لم يروها. وقد قال أيضا “بخمسة آلاف من الملائكة المسومين
قلت : كان من الممكن أن يكون هناك ملك واحد فقط، فقد دمرت مدائن قوم لوط بتدخل جبريل، وبلاد ثمود وقوم صالح بصوت صاحب الرسالة. ومع ذلك، منح الله محمدا صلى الله عليه وسلم نعمة فريدة عن سائر الأنبياء وأولياء الله الذين لديهم إرادة قوية، بالإضافة إلى أنها شملت النجار المحبوب. ومن أسباب الكرامة والتميز التي لا يتمتع بها أحد غيره، أن الله أنزل له جنودا من السماء. وكأنه أشار بقوله: “وما أنزلنا”، “وما كنا منزلين” إلى أن إرسال الجنود من السماء هو أمر عظيم يتم تفويضه لشخص مثلك فقط، وليس لغيرك.
إن كانت إلا صيحة واحدة”، قراءة العامة “واحدة” بالنصب، تقريرا لما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج “صيحة” بالرفع هنا، وفي قوله: “إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون”، جعلوا الكون بمعنى الوقوع والحدوث؛ فكأنه قال: ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة، “فإذا هم خامدون” أي ميتون هامدون؛ تشبيها بالرماد الخامد، وقال قتادة: هلكى، والمعنى واحد.