تفسير الآية ” يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض “
في سورة ص، الآية 26، يقول الله للنبي داوود: “يا داوود، إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، فإن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذابٌ شديد بما نسوا يوم الحساب.
تفسير ابن كثير للآية :
هذه وصية من الله عزَّ وجلَّ لولاة الأمور، أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى، ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله، وقد توعد تبارك وتعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد، روى ابن أبي حاتم بسنده عن أبي زرعة – وكان قد قرأ الكتاب – أن الوليد بن عبد الملك قال له: أيحاسب الخليفة فإنك قد قرأت الكتاب الأول وقرأت القرآن وفقهت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أقول؟ قال: قل في أمان الله، قلت: يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أو داود عليه الصلاة والسلام؟ إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة ثم توعده في كتابه فقال تعالى: { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } الآية [ أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة ].
وقال عكرمة: {لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} هذا يعود للماضي والمستقبل: سيتعرضون لعذاب شديد في يوم الحساب بسبب ما نسوه، وقال السدي: سيتعرضون لعذاب شديد بسبب تركهم أعمالا ليوم الحساب، وهذا القول هو الأكثر ظهورا والله هو الموفق للصواب.
يقول القرطبي فيه خمس مسائل:
الأولى: { إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ } أي ملكناك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فتخلف من كان قبلك من الأنبياء والأئمة الصالحين وقد مضى في { البقرة} القول في الخليفة وأحكامه مستوفى والحمد لله.
الثانية: “{ فاحكم بين الناس بالحق } يعني بالعدل وهو أمر واجب ويتصل ذلك بما قبله، حيث طلبت المرأة من زوجها ذلك الرجل الذي عوت عليه، ولم يكن ذلك بالعدل. بعد ذلك، قيل لداود: { فاحكم بين الناس بالعدل }، أي: لا تتبع هواك الذي يخالف أمر الله، حتى لا تضل عن سبيل الله وتقع في العذاب الشديد، لأن الذين يضلون عن سبيل الله ويتركونه لهم عذاب شديد في النار، بسبب تركهم لطريق الله في يوم الحساب. ويأتي قوله: { نسوا يوم الحساب }، ليشير إلى أنهم تركوا الإيمان أو التقليد، وأصبحوا كالناسين. ويقال أن هذا قول لداود بعدما أكرمه الله بالنبوة، أو بعدما تاب عن خطيئته وغفر له.
الثالثة: الأصل في الأقضية قوله تعالى: `يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق` وقوله: `وأن احكم بينهم بما أنزل الله` [المائدة: 49] وقوله تعالى: `لتحكم بين الناس بما أراك الله` [النساء: 105] وقوله تعالى: `يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط` [المائدة: 8] وقد تقدم الكلام فيه.
الرابعة: قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: `يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله`، أنه إذا ارتفع لك الخصمان في الحق، فعليك أن تحكم بالحق ولا تميل إلى أحد الخصمين بسبب قرابة أو رجاء نفع أو أي سبب آخر يدفعك للميل، لأنه إذا فعلت ذلك، فسوف تمحى شمولية نبوتك، ولن تكون بعد ذلك خليفة لي ولا من أهل كرامتي. ويؤكد هذا على وجوب الحكم بالحق وعدم الميل إلى أحد الخصمين بسبب أي سبب.
وقال ابن عباس : إن سليمان بن داود عليه السلام لم يبتل إلا لأنه واجه خصمين يطالبان بالحق، وكان يود أن يحكم بالحق لأحدهما. قيل إن عبد العزيز بن أبي رواد: في زمن بني إسرائيل كان هناك قاض جاد جدا، حتى طلب من ربه أن يعطيه علامة تدله على الحقيقة. إذا كان يحكم بالحق، فسيكتشف ذلك، وإذا كان خطأ، فسيكتشف ذلك أيضا. قيل له: ادخل منزلك وامتد يدك إلى الجدار، ثم انظر إلى مستوى أصابعك على الجدار واستمر في سحب خط عند هذا المستوى. عندما تقوم من مقعدك في المحكمة، انظر إلى هذا الخط وامتد يدك إليه. إذا كنت على حق، ستصل إليه، وإذا كنت على خطأ، ستنقطع قبل أن تصل. وكان يذهب إلى المحكمة وهو جاد، ولم يحكم إلا بالحق. وعندما ينهي جلسته، لا يأكل أو يشرب، ولا يتحدث مع أهله بأي شيء حتى يصل إلى هذا الخط. عندما يصل إليه، يشكر الله ويعامل أهله بكل ما أحله الله له من طعام ومشروب.
في يوم ما وهو في مجلس القضاء، تقدم إليه رجلان يرغبان في خوض خلاف قضائي أمامه، ولما شعر برغبتهما في ذلك، ظن في نفسه أنهما يريدان منه أن يحكم لأحدهما، وكان أحدهما صديقه ومحبوبه، فشعر بالمحبة تجاهه وأراد أن يحكم له، وعندما تحدثا وتبادلا الآراء، قرر المحكمة بمصلحة الشخص الآخر، وعندما انتهى من مجلس القضاء ذهب إلى مكانه المعتاد، وحين حاول الكتابة على الورقة، لاحظ أن الخط قد تلاشى، فانحنى ساجدا وهو يردد: “يا رب، أفعلت شيئا لم أقصده، فرد الخط لي.” وعندها قيل له: “أتظن أن الله لم يكن على علم بخيانة قلبك، حيث أردت أن تحكم لصديقك، ولكن الله قد جعل الحق لأهله، وأنت كنت ظالما.
وعن ليث قال : تقدمت إلى عمر بن الخطاب خصمين، ثم قمت بإقامتهما، ثم عادا وقمت بإقامتهما، ثم عادا وفصلت بينهما. سئلت عن السبب، فقلت: عندما تقدمت إليهما، وجدت لأحدهما ما لم أجد للآخر، فكرهت فكرة فصلهما على هذا الأساس. ثم، عادا وجدت بعضا من ذلك للآخر، ثم عادا واختفى ذلك، فقمت بالفصل بينهما.
وقال الشعبي : كان هناك خلاف بين عمر وأبي، فقررا أن يتقاضيا الأمر إلى زيد بن ثابت. وعندما دخلا عليه، أشار عمر إلى وسادته، فقال: `هذا أول ظلم تعمله؛ اجلسني وإياه في مجلس واحد`. فجلسا بين يديه.
الخامسة : هذه الآية تمنع الحاكم من الحكم بما ليس له علم به، لأنه إذا منح الحكام الحق في الحكم بما يريدون بغض النظر عن علمهم، لن يكون هناك أحد يحترم حدود الله، وسيدعي الناس علما غير حقيقي في قضايا الحكم. وقد روى بعض الصحابة، بمن فيهم أبو بكر، أنهم لو رأوا شخصا ينتهك حدود الله، لم يأخذوه إلى العدالة حتى يشهد عليه شخص آخر.
وروي أن امرأة جاءت إلى عمر فقالت له : احكم لي على فلان بكذا فإنك تعلم ما لي عنده. فقال لها : إن أردت أن أشهد لك فنعم وأما الحكم فلا. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد؛ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترى فرسا فجحده البائع، فلم يحكم عليه بعلمه وقال : « من يشهد لي » فقام خزيمة فشهد فحكم. خرج الحديث أبو داود وغيره.