تفسير الآية ” ونكتب ما قدموا وآثارهم ” وسبب نزولها
إننا نحن نُحيي الموتى ونسجل ما قدموه وآثارهم، وقد حصرنا كل شيء في كتاب واضح
تفسير الآية ابن كثير :
قال الله عزَّ وجلَّ: { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى } أي يوم القيامة، وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب من يشاء من الكفار، الذين ماتت قلوبهم بالضلالة، فيهديهم بعد ذلك إلى الحق، كما قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب: { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [الحديد:17]، وقوله تعالى: { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا } أي من الأعمال، وفي قوله تعالى: { وَآَثَارَهُمْ } قولان: أحدهما: نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم، فيجزيهم على ذلك أيضاً إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
كقوله صلى الله عليه وسلم: « من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً » [ أخرجه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي وهو طويل وفيه قصة مجتابي النمار المضريين ]. وهكذا الحديث الآخر: « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده » [ أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً ].
وقال مجاهد في قوله تعالى: يعني `ما قدموا وآثارهم` ما أثروا به من خطاياهم أو أعمالهم الصالحة التي عمل بها قوم بعد موتهم. ويمكن للإنسان أن يكتب أثره في طاعة الله تعالى أو معصيته، ويحصى الله تعالى كل أثر لشخص ما، ولذلك يجب علينا أن نسعى لكتابة أثارنا الصالحة في طاعة الله تعالى.
الحديث الأول: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: « إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد »، قالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: « يا بني سلمة: دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم » [ أخرجه أحمد والإمام مسلم ].
الحديث الثاني: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كانت بنو سلمة في منطقة بالقرب من المدينة وأرادوا الانتقال إلى مكان قريب من المسجد. فنزلت الآية: { إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم }، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: « إن آثاركم ستكتب ». ولكنهم لم ينتقلوا [رواه ابن أبي حاتم والترمذي، وقال الترمذي: حسن غريب]. وروى الحافظ البزار عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: شكى بنو سلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استقروا في منازلهم بعيدة عن المسجد. فنزلت الآية: { ونكتب ما قدموا وآثارهم }، فبقوا في مكانهم.
الحديث الثالث: قال ابن عباس رضي الله عنهما: `كانت الأنصار يسكنون بعيدا عن المسجد، فأرادوا الانتقال إلى المسجد، فنزلت الآية: {ونكتب ما قدموا وآثارهم}، فثبتوا في منازلهم.` هذا الحديث موقوف ورواه الطبراني.
الحديث الرابع: قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: توفي رجل بالمدينة فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: « يا ليته مات في غير مولده » فقال رجل من الناس: ولم يا رسول الله؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: « إن الرجل إذا توفي في غير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة » [أخرجه الإمام أحمد والنسائي].
وروى ابن جرير عن ثابت قال: سارت بي أنا وأنس رضي الله عنه وسرعت خطواتي، فأمسك بيده وسارينا ببطء، وبعد أن أنهينا الصلاة، قال أنس: سارت معي زيد بن ثابت وسرعت خطواتي، فقال: يا أنس، ألم تشعر أن الآثار تكتب؟ وهذا القول لا يتعارض مع القول الأول، بل هو تنبيه ودلالة على ذلك بأولوية وأهمية، فإذا كانت تلك الآثار تكتب، فإن الأفضل أن تكتب تلك التي تحوي قدوة للخير أو الشر، والله أعلم.
وقوله تعالى:وجميع الأشياء محصورة في الكتاب الذي مرتب في لوح محفوظ وهو إمام مبين ، وهو الكتاب الأساسي. وقال مجاهد وقتادة أن “إمام مبين” هنا يعني “أم الكتاب”. ووفقا لقوله تعالى: “يوم ندعو كل أناس بإمامهم” (سورة الإسراء: 71) يتم دعوة الناس لحضور اللوح المحفوظ الذي يشهد على أعمالهم، سواء كانت جيدة أم سيئة، ويتم ذلك بموجب الكتاب المحفوظ. وقد قال الله تعالى: “ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء” (الزمر: 69)، وقال أيضا: “ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا” (سورة الكهف: 49).