تفسير الآية ” وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى “
{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [سورة يس: 20-25]
تفسير الآيات القرطبي :
قوله تعالى: { وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى } هو حبيب بن مري وكان نجارًا. وقيل : إسكافًا. وقيل : قصارًا. وقال ابن عباس ومجاهد ومقاتل : هو حبيب بن إسرائيل النجار وكان ينحت الأصنام، وهو ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وبينهما ستمائة سنة، كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما. ولم يؤمن بنبي أحد إلا بعد ظهوره.
قال وهب : وكان حبيب مجذوما، ومنزله عند أبواب المدينة. كان يعبد الأصنام لمدة سبعين سنة، يدعوهم عسى أن يرحموه ويزيلوا بلاءه، ولكنهم لم يستجيبوا له. عندما رأى الرسل، دعوهم لعبادة الله وسألهم عن دليل. قالوا: `نعم، ندعو ربنا القادر ليخفف عنك ما أصابك`. فقال: `إن هذا أمر غريب! دعوت هذه الآلهة لمدة سبعين سنة ولم يستطعوا أن يخففوا عني، فكيف يمكن لربكم أن يخفف عني في يوم واحد؟` قالوا: `نعم، ربنا قادر على ما يشاء، وهؤلاء الأصنام لا تضر ولا تنفع شيئا`. فآمن بهم ودعوا ربهم، فأزال الله ما به من البلاء تماما، كأنه لم يكن به شيء. بعد ذلك، توجه إلى كسب الرزق، وعندما جاء المساء، تصدق بنصف ما كسبه وأطعم نصف لقومه. وعندما قتل قومه الرسل، جاءهم وقال: `يا قوم، اتبعوا المرسلين`.
وقال قتادة : كان يعبد الله في غار، فلما سمع بخبر المرسلين جاء يسعى، فقال للمرسلين: هل ترغبون في أجر على ما جئتم به؟ أجابوا: لا، إن أجرنا عند الله فقط. قال أبو العالية: فآمن بهم وأصدقهم وتقبلهم في قومه بأنه قال: `يا قوم، اتبعوا المرسلين. اتبعوا من لا يطلب منكم أجرا وهم مهتدين.` فاهتدوا بما جاءوا به. وقال: `وما لي لا أعبد الذي فطرني؟` قال قتادة: قال له قومه: أأنت على دينهم؟! فقال: `وما لي لا أعبد الذي فطرني؟` أي أنا خلقني. `وإليه ترجعون.` وهذا احتجاج منه عليهم. وأضاف الفطرة إلى نفسه؛ لأن ذلك نعمة عليه توجب الشكر، وأرسلهم إليهم؛ لأن ذلك وعد يستدعي الانتباه؛ فكان إضافة النعمة إلى نفسه ظاهرة للشكر، وإضافة إرسالهم إلى الكافر أقوى تأثيرا.
قوله تعالى: هل أتخذت غير الله آلهة؟ أي أصناما. إذا أراد الرحمن أن يصيبني بمكروه، لن تفيدني شفاعتهم شيئا ولن ينقذونني. إذا فعلت ذلك، فإنني سأكون في خسارة ظاهرة. إنني آمنت بربكم، فاستمعوا لي.” قال ابن مسعود: أعلن للرسل أنه يؤمن بالله ربهم. ومعنى “فاستمعوا لي” هو “فشهدوا لي”، أي كونوا شهودا لإيماني.
وقال كعب ووهب : قال ذلك لقومه (5287) إنما لقوله ذلك لقومه الذين كفروا به: إني آمنت بربكم. وقيل: لما قال لقومه اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجرا، رفعوه إلى الملك وقالوا: قد تبعت عدونا، فكان الكلام طويلا مشتتا ليشغلهم عن قتل الرسل، حتى قال: إني آمنت بربكم. فقفزوا عليه وقتلوه. وقال ابن مسعود: وطأوه بأقدامهم حتى خرجت عصبته من ظهره، وألقوه في بئر، وهي الرس، وهم أصحاب الرس. وفي رواية أخرى أنهم قتلوا الرسل الثلاثة.