تفسير الآية ” لتستووا على ظهوره “
قال الله تعالى : والذي خلق الأزواج كلها، وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون. لتستقيموا على ظهورها، ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استقمتم على ذلك، وتقولوا: سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا نستطيع أن نتحكم فيه (13). وإنا إلى ربنا لمنقلبون.” [سورة الزخرف: 12-14].
تفسير القرطبي
قال: هناك خمسة مسائل: الأولى: قوله تعالى: `والذي خلق الأزواج`، أي والله هو الذي خلق الأزواج. قال سعيد بن جبير: يعني جميع الأصناف، وقال الحسن: الشتاء والصيف والليل والنهار والسماوات والأرض والشمس والقمر والجنة والنار. وقيل: أزواج الحيوانات من الذكر والأنثى؛ قال ابن عيسى. وقيل: يقصد أزواج النباتات؛ كما قال تعالى: `وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج` [سورة ق: 7] و`من كل زوج كريم` [سورة لقمان: 10] وقيل: ما يتقلب فيه الإنسان من خير وشر، وإيمان وكفر، ونفع وضر، وفقر وغنى، وصحة وسقم. أقول: وهذا القول يشمل جميع الأقوال ويجمعها بشكل عام.
الثانية: قوله تعالى: { وجعل لكم من الفلك } السفن { والأنعام } الإبل { ما تركبون } في البر والبحر { لتستووا على ظهوره } ذكر الكناية لأنه يعود إلى قوله: { ما تركبون }، وقال أبو عبيد والفراء: ذكر الظهور لأنه يشير إلى نوع من الأنعام، فصارت الأنعام في معنى الجمع، وكان الواحد في معنى الجمع مثل الجيش والجند، ولذلك ذكر الظهور في الجمع، وأشار سعيد بن جبير إلى أن الأنعام هنا تعني الإبل والبقر، وقال أبو معاذ: الأنعام هي الإبل فقط، وهذاالصحيح وفقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “بينما رجل راكب بقرة إذ قالت له لم أخلق لهذا إنما خلقت للحرث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: `آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر`، وهم ليسوا من الأنعام، وقد مضى ذلك الزمان.
الثالثة: قوله تعالى: { لتستووا على ظهوره } يعني به الإبل خاصة، وذلك بسبب ما ذكرناه، ولأن الفلك يركب على بطونها، ولكنه ذكرهما جميعا في بداية الآية وعطف آخرها على أحدهما، ومن الممكن أن يجعل ظاهر الإبل باطنها؛ لأن الماء يغطيها ويخفيها، وبطنها يكون ظاهرا، لأن الظاهرين انكشفا وأصبحا مرئيين للناظرين.
الرابعة: يذكر الله تعالى في هذه الآية أنه يجب علينا أن نشكره على نعمه التي وفرها لنا في البر والبحر، ونقول `سبحان الذي سخر لنا هذا` عندما نستخدم هذه النعم، ونقول `ما كنا له مقرنين`، أي لم نكن قادرين على استخدام هذه النعم بدون تسخير الله لها لنا. وقد يعني `مقرنين` أيضا `ضابطين` أو `مماثلين في الأيدي والقوة`، ويشير إلى ضرورة التواضع والاعتراف بأن كل شيء نستخدمه هو نعمة من الله.
الخامسة: الله سبحانه وتعالى علمنا ما نقوله عند ركوب الحيوانات، وأخبرنا في آية أخرى من خلال نوح عليه السلام ما نقوله عند ركوب السفن، وهي قوله تعالى: `اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم` [سورة هود: 41]. فكم من شخص ركب حيوانا ووقع أو ضرب أو سقط من فوقه وهلك، وكم من راكبي السفن الذين تعطلت بهم السفن وغرقوا.
فلما كان الركوب مباشرة أمر محظور واتصالًا بأسباب من أسباب التلف أمر ألا ينسى عند أتصال به يومه، وأنه هالك لا محالة فمنقلب إلى الله عز وجل غير منفلت من قضائه. ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه حتى يكون مستعدا للقاء الله بإصلاحه من نفسه. والحذر من أن يكون وركوبه ذلك من أسباب موته في علم الله وهو غافل عنه.
ذكر سليمان بن يسار حوادث حدثت مع بعض الناس خلال سفرهم، حيث كانوا يقولون عندما يركبون: `سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين`، وكان بينهم رجل يركب ناقة تدعى `الرازم`، وهي الناقة التي لا تتحرك بسهولة، والرازم هو الإبل الثابت على الأرض لا يقوم من الهزال، فقال الرجل: `أنا لا أعتمد على الرازم، بل أعتمد على نفسي`، وبعد ذلك قام بتحريك الناقة وفي النهاية قتلها. وروى الماوردي الأول وابن العربي الثاني هذه الحادثة
لا يجب على العبد أن يذكر هذا القول، ولا يكون واجبا على لسانه. بدلا من ذلك، عندما يركب المركبة، خاصة عند السفر، يجب أن يقول: `سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون`. اللهم، أنت الصاحب في السفر، والوكيل في الأهل والمال. اللهم، أعوذ بك من التعب والمشقة في السفر، ومن الحزن والاكتئاب بعد العودة، ومن الظروف السيئة في الأهل والمال. وبـ `الجور بعد الكور` يعني تشتت شؤون الرجل بعد اجتماعه.
وقال عمرو بن دينار: ذهبت مع أبي جعفر إلى أرض تبعد عن حائط يسمى مدركة، وركب على جمل صعب. فقلت له: `أبا جعفر! ألا تخاف أن تسقط؟` فأجاب: `إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “على سنام كل بعير شيطان، فإذا ركبتم إياهافاذكروا اسم الله كما أمركم، ثم قوموا بها لأنفسكم، فإنَّما يحمل الله
وقال علي بن ربيعة : عاشت علي بن أبي طالب تجربة ركوب دابة في يوم ما، وعندما وضع قدمه في الركاب قال: باسم الله. وعندما استقر على الدابة قال الحمد لله، ثم قال: {سبحان الذي سخر هذا لنا ولم نكن قادرين عليه، وإننا سنعود إلى ربنا}. ثم قال: الحمد لله والله أكبر – ثلاث مرات – اللهم لا إله إلا أنت، أنا ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. ثم ابتسمت وسألته: ما الذي يجعلك تبتسم؟ فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل مثل ما فعلت، وقال مثل ما قلت. ثم ابتسمت وسألته: ما الذي يجعلك تضحك يا رسول الله؟ فقال: “العبد – أو ربما قال – عجبا للعبد أن يقول: اللهم لا إله إلا أنت، أنا ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت”، وهو يعلم أنه لا يغفر الذنوب سواه. [رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، وأبو عبد الله محمد بن خويزمنداد في أحكامه].
وذكر الثعلبي له نحوه مختصرا عن علي رضي الله عنه، ولفظه عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع رجله في الركاب قال: « باسم الله – فإذا استوى قال – الحمد لله على كل حال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون وإذا نزلتم من الفلك والأنعام فقولوا اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين».
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: من يركب دون أن يقول `سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين`، فإن الشيطان يداعيه ويغويه. وإذا لم يكن حسنا في قوله، فإن الشيطان يتمنى له. ذكر ذلك النحاس. ويستعيذ بالله من مقام يدعو قرينه: `تعالوا نتنزه على الخيل أو نركب الزوارق`، ويحملون معهم أواني الخمر والمعازف. فإنهم لا يتوقفون عن الشرب حتى يتعبوا وهم على ظهور الحيوانات أو في أحشاء السفن أثناء الإبحار. إنهم لا يذكرون إلا الشيطان ولا يطيعون إلا أوامره.
قال الزمخشري: بعض السلاطين كانوا يسافرون بين البلدان وهم يشربون الخمر، ولم يكن ذلك صحيحا إلا بعدما أتمنت الدار على ذلك، ولم يشعروا بالمسافة التي قطعوها ولا أحسوا بها، فكيف يتماشى هذا مع أمر الله في هذه الآية؟