تفسير الآية ” ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون “
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [سورة الزمر: 27-31]
تفسير الآيات ابن كثير :
يقول تعالى: { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ } أي بينا للناس فيه بضرب الأمثال { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } فإن المثل يقرب المعنى إلى الأذهان كما قال تبارك وتعالى: { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } [العنكبوت:43]، وقوله جلَّ وعلا: { قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } أي هو قرآن بلسان عربي مبين لا اعوجاج فيه، ولا انحراف ولا لبس، بل هو بيان ووضوح وبرهان، وإنما جعله الله تعالى كذلك، وأنزله بذلك { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي يحذرون ما فيه من الوعيد ويعملون بما فيه من الوعد.
ثم قال: { يضرب الله مثلا لرجل فيه شركاء متشاكسون } أي يتنازعون على العبد المشترك بينهم، { ولرجل سليم } أي سليم { لرجل } أي خالص لا يملكه أحد غيره، { هل يستويان } أي هل يتساويان؟ لا يتساوي هذا وذاك، وبالمثل، لا يتساوى المشرك الذي يعبد آلهة مع الله، والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له. فأين هذا وأين هذا؟ قال ابن عباس ومجاهد: إن هذه الآية تضرب مثلا للمشرك والمؤمن المخلص، ولأن هذا المثل واضح بشكل جلي، قال الله: { الحمد لله } أي على إثبات الحجة عليهم { بل أكثرهم لا يعلمون } أي لذلك يشركون بالله.
وقوله تبارك وتعالى: إنكم ستنتقلون من هذا العالم إلى الآخر بالتأكيد، وسيتم لقاؤكم جميعا عند الله العلي القدير في الحياة الآخرة، وستتم محاكمتكم فيما تنازعون فيه من قضايا التوحيد والشرك بين يدي الله العزيز العليم، حيث سيحكم بينكم ويفصل بالحق، وسينجي المؤمنين الصادقين الذين يوحدونه وسيعاقب الكافرين والمشركين الكاذبين.
يقال إنه عندما نزلت الآية `ثم إنكم يوم القيامة تختصمون`، قال الزبير -رضي الله عنه-: `يا رسول الله! هل ستتكرر الخصومات بيننا؟` فقال صلى الله عليه وسلم: `نعم`. فقال الزبير -رضي الله عنه-: إن الأمر في ذلك صعب. وروى الزبير بن العوام -رضي الله عنه- أنه عندما نزلت هذه السورة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- `إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة تختصمون`، قال الزبير -رضي الله عنه-: يا رسول الله، هل ستتكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا من الخطايا الخاصة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: `نعم، سيتم تكرارها عليكم حتى يحقق كل ذي حق حقه`. فقال الزبير -رضي الله عنه-: والله إن الأمر في ذلك صعب
وفي الحديث: يذكر في هذا الحديث النبوي الشريف أن أول الخصمين يوم القيامة هما جاران، وذلك حسبما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عقبة بن عامر بإسناد مرفوع. وفي رواية أخرى للإمام أحمد من طريق أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شاتين ينتطحان، فسأل أبا ذر عماذا يفعلان، فقال: لا أدري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لكن الله يدري وسيحكم بينهما”. وروى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يأتي الإمام الجائر الخائن يوم القيامة فيخاصمه الرعية، فيفوزون عليه، فيقال له: سد ركنا من أركان جهنم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } يقول: الصادق يخاصم الكاذب، والمظلوم يخاصم الظالم، والمهتدي يخاصم الضال، والضعيف يخاصم المستكبر، وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الناس يختصمون يوم القيامة حتى يخاصم الروح الجسد، فيقول الروح للجسد: أنت فعلت، فيقول الجسد للروح: أنت أمرت وسولت، فيبعث الله تعالى ملكا يفصل بينهما، فيقول لهما: إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير، والآخر ضرير، دخلا بستانا، فقال المقعد للضرير: إني أرى هنا ثمارا، ولكن لا أصل إليها، فقال له الضرير: اركبني فأنا أنتقل إليها، فركبه فتناولها، فمن الاثنين هو المعتدي؟ فيقولان كلاهما، فيقول لهما الملك: فإنكما قد حكمتما على أنفسكما، وهذا يعني أن الجسد للروح كالمطية وهو راكبه [رواه ابن منده في كتاب الروح ولم يشر له ابن كثير بضعف].
وروى ابن أبي حاتم، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: هذه الآية نزلت ولا نعلم فيما نزلت؛ { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون }، قلنا: مع من نختصم؟ فليس هناك خصومة بيننا وبين أهل الكتاب، فمن نخاصم؟ حتى وقعت الفتنة، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: هذا الأمر الذي وعدنا به ربنا عز وجل هو الذي سنختصم فيه [رواه النسائي عن ابن عمر وأخرجه ابن أبي حاتم]، وقال أبو العالية: { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون }، وهذا يعني أهل القبلة، وقال ابن زيد: يعني أهل الإسلام وأهل الكفر، والصواب هو العموم، والله سبحانه وتعالى هو الأعلم.