تفسير الآية ” إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون “
{وضعنا أغلالا في أعناقهم تمتد حتى الأذقان، حتى أصبحوا مقمحين، وجعلنا من الأمام والخلف سدا، فأتيناهم بالغشاوة فهم لا يبصرون، ومهما أنذرتهم فسوف لا يؤمنون، إنما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمن بالغيب، فبشره بالمغفرة والثواب الكريم} [سورة يس: 8-11].
سبب نزول الآية :
قال عكرمة، قال أبو جهل: إذا رأيت محمدا، فسأفعلن وسأفعلن، فنزلت الآية: `إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا – إلى قوله – فهم لا يبصرون`. وقيل: كانوا يقولون: هذا محمد، فيقولون: أين هو؟ لا يرونه” [رواه ابن جرير]. وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب قال، قال أبو جهل وهم جالسون: “إن محمدا يدعي أنكم إن اتبعتموه ستكونون ملوكا، فإذا متم بعثتم بعد موتكم، وتكون لكم جنان أفضل من جنان الأردن. وإن خالفتموه، ستذبحون منه ثم تبعثون بعد موتكم، وستكون لكم نار تعذبون بها.” وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك اللحظة وفي يده حفنة من التراب، وقد أغشي الله تعالى على أعينهم بخلافه، فرشها على رؤوسهم وقرأ: `يس والقرآن الحكيم – حتى انتهى إلى قوله تعالى – وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون`.
وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته وباتوا رصداء على بابه حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار، فقال: ما لكم؟ قالوا: ننتظر محمداً، قال: قد خرج عليكم، فما بقي منكم من رجل إلا وضع على رأسه تراباً، ثم ذهب لحاجته، فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب، قال: وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قول أبي جهل فقال: « وأنا أقول ذلك إن لهم مني لذبحاً وإنه لآخذهم ».
تفسير الآيات ابن كثير :
يقول تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ } هؤلاء المحكوم عليهم بالشقاء كمن جعل في عنقه غل، فجمعت يداه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسه فصار مقمحاً، ولهذا قال تعالى: { فَهُمْ مُقْمَحُونَ } والمقمح هو الرافع رأسه، كما قالت أم زرع في كلامها: وأشرب فأتقمح، أي أشرب فأروى وأرفع رأسي تهنيئًا وتروًيا، واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين وإن كانتا مرادتين، ولما كان الغل إنما يعرف في جمع اليدين إلى العنق اكتفى بذكر العنق عن اليدين.
قال ابن عباس: يعني ذلك أن أيديهم مشدودة إلى أعناقهم حتى لا يتمكنوا من تمديدها بالخير. وقال مجاهد: `فهم مقمحون`، أي يرفعون رؤوسهم ويضعون أيديهم على أفواههم، فهم منعزلون عن كل خير. وقد قال تعالى: `وجعلنا من بين أيديهم سدا`، وقال مجاهد بالحق: `ومن خلفهم سدا` بالحق، فهم مترددون في الضلالات.
أغشيناهم” يعني أغشينا أبصارهم عن الحق، فهم لا يرون الحق ولا يستفيدون منه، قال عبد الرحمن بن زيد: جعل الله تعالى هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان، فهم لا يصلون إلى الحق. وقرأ: “إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون • ولو جاءتهم كل آية حتىٰ يروا العذاب الأليم” [سورة يونس: 96-97]، ثم قال: منعهم الله تعالى فلا يستطيعون، وقوله تبارك وتعالى: “وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون” أي ختم الله عليهم بالضلالة، فالتحذير لا يفيدهم ولا يؤثر فيهم، “إنما تنذر من اتبع الذكر” أي إنما يستفيد من تحذيرك المؤمنون الذين يتبعون “الذكر” وهو القرآن العظيم.
وخشي الرحمن بالغيب” تعني في المكان الذي لا يراه أحد إلا الله تبارك وتعالى، يعلم أن الله يراقب ويعلم بكل ما يحدث. “فبشره بمغفرة” يعني بأنه سيبشره بمغفرة لذنوبه. “وأجر كريم” يعني بأن الأجر سيكون كبيرا وجميلا، كما قال تعالى: “إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير” [الملك: 12]، وقد ذكر ذلك ابن جرير .