تفسير الآية ” أني مسني الشيطان بنصب وعذاب “
{ واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ومنحناه أهله ومثلهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تخل بالعهد، إنا وجدناه صابرا، إنه عبد نعم الذي يتوب على الله } [سورة ص: 41-44
تفسير الآيات ابن كثير :
{ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ } يذكر الله تبارك وتعالى عبده ورسوله أيوب عليه السلام، وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده، حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليماً سوى قلبه، ولم يبق له من الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه، غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله تعالى ورسوله، فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه، نحواً من ثماني عشرة سنة، وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة من الدنيا، فسلب جميع ذلك حتى رفضه القريب والبعيد سوى زوجته رضي الله عنها فإنها كانت لا تفارقه صباحاً ومساء إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريباً.
عندما استمر المرض وتفاقمت حالتي وانتهى وقتي المحدد والمقدر، تضرعت إلى الله رب العالمين وإله المرسلين وقلت: {أني مصاب بالضر وأنت أرحم الراحمين} [الأنبياء: 83]، وفي هذه الآية الكريمة قال: {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب}، وقد قيل إن النصب هو في بدني، والعذاب هو في مالي وولدي، وفي ذلك الوقت أجابني الله رب العالمين وأمرني بالنهوض من مكاني والجري على الأرض بقدمي، ففعلت، وأمر الله ربي أن أغتسل من عين نافورة نبعت من الأرض، وتم بفضل الله تعالى شفائي من كل ما كان يؤذي جسمي، ثم أمرني بضرب الأرض في مكان آخر، فانبعثت لي عين أخرى، وأمرني بالشرب منها، فتم شفائي الكامل بظاهره وباطنه، ولهذا قال تبارك وتعالى: {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} .
حكى ابن جرير وابن أبي حاتم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إن نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام بقي في محنته لمدة ثمانية عشر عاما، رفضه الأقارب والأشخاص البعيدين، إلا رجلان كانا من أقرب إخوته إليه، كانا يأتيانه ويغادرانه.فقال أحدهما لصاحبه: تعلم أني بالله لقد أذنب أيوب ذنبا لم يذنبه أحد في العالمين، فقال صاحبه: وما هو ذلك؟ قال: منذ ثمانية عشر عاما لم يرحمه الله تعالى وأظهر ما به من بلاء. فلما جاءا إليه لم يستطع الرجل الصبر حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب عليه الصلاة والسلام: أعلم أنت تقول هذا، ولكن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين وهما يتنازعان ويذكران الله تعالى. فعدت إلى بيتي واعتذرت عنهما لأنني لا أحب أن يذكر الله تعالى إلا بحقه. وكان يخرج لأداء حاجاته، فإذا أنجزها، امسكت زوجته بيده حتى يعود. وفي يوم ما تأخر عنها، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى أيوب عليه السلام قائلا: { اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب }. فأبطأته ونظرت حولها، وعندئذ أقبل عليها مشفى الله بها من البلاء، وكانت في أفضل حال. فلما رآها قالت: بارك الله فيك، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى؟ وحقا، والله القادر على ذلك، لم أر رجلا يشبهك في القوة والصحة، قال أيوب: بالفعل، أنا هو » [رواه ابن جرير وابن أبي حاتم بنفس اللفظ]
وفي الحديث قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أثناء استحمام أيوب عليه الصلاة والسلام عريانا، سقط عليه جراد من ذهب، فأزاله من ثوبه. فناداه ربه عز وجل “يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟” فقال عليه الصلاة والسلام “بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك”. ولهذا قال تبارك وتعالى: “ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب”. وقال الحسن وقتادة: أحياهم الله تعالى له بأعيانهم وزادهم مثلهم معهم. وقوله عز وجل: “رحمة منا” أي بسبب صبره وثباته وإنابته وتواضعه واستكانته. “وذكرى لأولي الألباب” أي لذوي العقول ليتعلموا أن عاقبة الصبر هي الفرج.
وقوله جلَّت عظمته: وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث”، وذلك لأن أيوب عليه السلام كان قد غضب على زوجته ووجد في أمر فعلته، فحلف إن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة، ولكن عندما شفاه الله عز وجل وعافاه، كانت الخدمة التي تلقتها زوجته منه تامة ورحمة وشفقة وإحسان، لذلك لم يكن الضرب جزاء مناسبا لها. فأوصاه الله عز وجل بأن يأخذ ضغثا وهو الشمراخ الذي يحتوي على مائة قضيب، ويضربها به ضربة واحدة فقط، وقد برت يمينه، وخرج من حنثه ووفى بنذره، وهذا من الفرج والمخرج لمن يتقي الله تعالى ويتوب إليه.
ولهذا قال جلَّ وعلا: {وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب}” يعني أنهم وجدوه صابرا، والله تعالى أثنى عليه ومدحه قائلا “{نعم العبد إنه أواب}” أي رجاع منيب. ولذلك، قال الله تعالى: “{ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب}” [سورة الطلاق: 2-3]، واستدل كثيرون من الفقهاء بهذه الآية الكريمة على مسائل في الإيمان. والله أعلم.