تفسير الآية ” أم من قانت آناء الليل ساجدًا وقائمًا “
{ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } [سورة الزمر: 9]
تفسير الطبري :
القول في تأويل قوله تعالى: { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ } اختلفت القراء في قراءة قوله : { أَمْ مَنْ } فقرأ ذلك بعض المكيين وبعض المدنيين وعامة الكوفيين: { أَمْ مَنْ } بتخفيف الميم ولقراءتهم ذلك كذلك وجهان : أحدهما أن يكون الألف في { أَمْ مَنْ } بمعنى الدعاء، يراد بها : يا من هو قانت آناء الليل، والعرب تنادي بالألف كما تنادي بيا، فتقول : أزيد أقبل، ويا زيد أقبل وإذا وجهت الألف إلى النداء كان معنى الكلام : قل تمتع أيها الكافر بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار، ويا من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما إنك من أهل الجنة، ويكون في النار عمى للفريق الكافر عند الله من الجزاء في الآخرة، الكفاية عن بيان ما للفريق المؤمن، إذ كان معلومًا اختلاف أحوالهما في الدنيا، ومعقولًا أن أحدهما إذا كان من أصحاب النار لكفره بربه أن الآخر من أصحاب الجنة، فحذف الخبر عما له، اكتفاء بفهم السامع المراد منه من ذكره، إذ كان قد دل على المحذوف بالمذكور.
والثاني : يحتوي الألف التي في عبارة {أم من} على استفهام، ويعني الكلام: “هل هذا مثل من جعل أندادا لله ليضل عن سبيله، ثم ترك ذلك واكتفى بما ذكره الله عن فريق الكفرة من أعدائه؟” وقد قرأ بعض قراء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة الألف بتشديد الميم لتصبح عبارة {أمن}، وتعني: “من هو هذا؟” ويقولون إن الألف هنا استفهام اعترض في الكلام بعدما مضى الكلام السابق، وجاءت الألف لتوضيح ذلك. ويجب أن يترك جواب الاستفهام لأن الخبر قد جرى عن فريق الكفرة وما أعد الله لهم في الأخرة، ثم أتبع الخبر عن فريق الإيمان، وبذلك يفهم المقصود من الجملة. وبما أنه من الممكن فهم المعنى من الذي ذكره، فلا حاجة للإجابة على الاستفهام بشكل واضح، ولذلك يمكن أن يكون المعنى: “هل هذا أفضل من ذلك؟.
والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان قرأ بكل واحدة علماء من القراء مع صحة كل واحدة منهما في التأويل والإعراب ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وقد ذكرنا اختلاف المختلفين، والصواب من القول عندنا فيما مضى قبل في معنى القانت، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. غير أنا نذكر بعض أقوال أهل التأويل في ذلك في هذا الموضع، ليعلم الناظر في الكتاب اتفاق معنى ذلك في هذا الموضع وغيره.
فكان بعضهم يقول : في هذا الموضع يقوم القارئ بالوقوف أثناء الصلاة. وقد ذكر من قال ذلك عن ابن عمر، حيث كان يجيب عندما يسأل عن القنوت، قائلا: إنما أعلم بالقنوت هو قراءة القرآن والوقوف طويلا. واقتبس قوله: “أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما” وقد ذكروا أيضا: أن القنوت هو الطاعة. وذكر من قال ذلك عن ابن عباس، حيث قال: إن المقصود بالقنوت هو الطاعة، والدليل على ذلك هو قوله: “ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون وله من في السماوات والأرض كل له قانتون” [سورة الروم: 25-26].
عن السدي في قوله : {هل هناك شخص يطيع ويصلي خلال ساعات الليل منفردا ومسجدا؟}” قال: “القانت”: المطيع. وقوله: “{ساعات الليل}” يعني: ساعات الليل. كما حكى لنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: “{هل هناك شخص يطيع ويصلي خلال ساعات}” في بدايتها ووسطها ونهايتها، عن السدي قال: ساعات الليل. ونحن قد شرحنا سابقا معنى “الآناء” بالأدلة الواضحة، وروينا قصص أهل التأويل فيها، مما يجعلها غير مطلوبة لإعادة الذكر في هذا الموضع.
وقوله : {ساجدا وقائما} يقول: أحيانا أكون ساجدا وأحيانا أكون قائما، وذلك يعني أنني أطيع، والقنوت بالنسبة لنا يعني الطاعة، ولهذا يذكر في القول: {ساجدا وقائما} لأنه يعني أنه يطيع الله في جميع الأوقات سواء كان ساجدا أو قائما، فهما حالتان من حالات القانت. وقوله: {يحذر الآخرة} يعني أنه يحذر عذاب الآخرة، وقد ذكر ابن عباس في تفسير قوله: {يحذر الآخرة} أنه يحذر عقاب الآخرة، وقوله: {ويرجو رحمة ربه} يعني أنه يأمل في أن يرحمه الله ويدخله الجنة.
يقول تعالى: قل يا محمد لقومك: هل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعتهم لربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات، والذين لا يعلمون ذلك، فهم يخبطون في عشواء، لا يرجون بحسن أعمالهم خيرا، ولا يخافون بسيئاتهم شرا؟” يعني هذا الآية أن الأشخاص الذين يعرفون أحكام الله ويطيعونه تستحق أجرا جيدا، بينما الذين لا يعرفونه تنتهي حياتهم بالخسارة. وقد قال أبو جعفر محمد بن علي: “نحن الذين يعرفون، وأعداؤنا هم الذين لا يعرفون”. وتذكر الحجج الإلهية لأولئك الذين لديهم فهم وحكمة، ويتعظون ويتفكرون فيها، بينما يتجاهلها الجاهلون والأغبياء.