تفسير ” إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى ميعاد “
{ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ الله بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَدْعُ مَعَ الله إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ سورة القصص : 85-88 ].
سبب نزول الآية :
عن الضحاك قال : لما خرج النبي صل الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة، فأنزل الله عليه : { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } إلى مكة، وهذا من كلام الضحاك يقتضي أن هذه الآية مدنية وإن كان مجموع السورة مكيًا، والله أعلم.
تفسير الآيات ابن كثير :
{ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ } يقول تعالى آمراً رسوله صلوات الله وسلامه عليه ببلاغ الرسالة وتلاوة القرآن على الناس، ومخبراً له بأنه سيرده إلى معاد وهو يوم القيامة فسأله عما استرعاه من أعباء النبوة، ولهذا قال تعالى: { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ } أي افترض عليك أداءه إلى الناس { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } أي إلى يوم القيامة فيسألك عن ذلك، كما قال تعالى: { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [ الأعراف : 6 ]، وقال تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } [ المائدة:109 ]، وقال : { وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } [ الزمر : 69 ].
قال ابن عباس: { لتعيدك إلى المصير المحدد } يقول: لتعيدك إلى الجنة ثم يسألك عن القرآن، وقال مجاهد: سيحييك في يوم القيامة، وقال الحسن البصري: نعم، والله، له مصير فيبعثك الله في يوم القيامة ثم يدخلك الجنة، وقد روى عن ابن عباس شيئا آخر كما قال البخاري في التفسير عن ابن عباس { لتعيدك إلى المصير المحدد } قال: إلى مكة، وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس { لتعيدك إلى المصير المحدد } أي لتعيدك إلى مكة كما أخرجك منها، وقال محمد بن إسحاق عن مجاهد في قوله { لتعيدك إلى المصير المحدد } إلى مولدك في مكة.
تتوافق هذه الأقوال في أن ابن عباس يفسر العودة إلى مكة بأنها الفتح الذي يشير إليه وهو عند ابن عباس يرمز إلى اقتراب أجل النبي صل الله عليه وسلم، كما فسر ابن عباس سورة { إذا جاء نصر الله والفتح } [ النصر : 1 ] بأنه نبأ عن اقتراب أجل رسول الله صل الله عليه وسلم، ولذلك فسر ابن عباس في بعض الأحيان قوله: { لرادك إلى معاد } بالموت، وفي بعض الأحيان بيوم القيامة الذي يأتي بعد الموت، وفي بعض الأحيان بالجنة التي تكون جزاء على أداء رسالة الله ونشرها على الإنس والجن، وذلك بسبب أنه كان أكمل خلق الله وأفصح خلق الله وأشرق خلق الله على الإطلاق.
{ قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين } أي قل لمن يخالفك ويكذبك يا محمد من قومك من المشركين ومن يتبعهم على كفرهم قل: ربي أعلم بالمهتدي منكم ومني، وستعلمون من سيكون نهاية الدار له ومن ستكون العاقبة والنصرة له في الدنيا والآخرة، ثم ذكر الله تعالى نعمته العظيمة على نبيه وعباده عندما أرسله إليهم: { وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب } أي ما كنت تتوقع قبل أن ينزل الوحي عليك أن ينزل عليك الوحي، { ولكنها كانت رحمة من ربك } أي إنما نزل الوحي عليك من الله بفضل رحمته بك وبالعباد بسببك، فإذا منحك هذه النعمة العظيمة { فلا تكن عونا للكافرين } ولكن افترق عنهم وانفصل عنهم وخالفهم.
تفسير الآية: لا تدع أحدا يحول دونك ويمنعك من تأمل آيات الله التي أنزلها عليك. فلا تنزعج من معارضة الآخرين لك وعدم قبولهم لرسالتك. فإن الله يحمي كلمتك ويدعم دينك ويظهر رسالتك الإلهية فوق كل الأديان. ولهذا قال، “ادع إلى ربك” أي دع الناس إلى عبادة ربك الواحد الأحد، ولا تشرك به أحدا. وكما قال تعالى، “ولا تدع مع الله إلها آخر، لا إله إلا هو”، أي لا ينبغي أن يعبد سواه وحده، فالعبادة تنبغي له وحده، وهو الحي المتعالي، الذي يبقى وجهه ويدوم عزه وجلاله، بينما يفنى ويموت كل شيء آخر، كما قال تعالى، “كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام”، فالوجه هنا يعبر عن الذات، وهذا يعني كل شيء يفنى وينتهي إلا هو.
وقال مجاهد والثوري في قوله: يعني “كل شيء هالك إلا وجهه” تعني أن كل شيء سيفنى، باستثناء مرضاة الله ورضاه، وهذا القول لا يتعارض مع القول السابق، الذي يشير إلى أن كل الأعمال باطلة، باستثناء الأعمال الصالحة التي تتوافق مع الشريعة وتحقق مرضاة الله، والقول الأول يعني أن كل الكائنات الحية والغير حية ستفنى وتزول، باستثناء الله تعالى الذي هو الأول والآخر، ويتجلى في وجوده وقداسته، وكان ابن عمر يردد هذه العبارة عندما يريد تذكير نفسه بأن كل شيء سيفنى باستثناء الله تعالى، ويقول أيضا “له الحكم”، أي إن الملك والتصرف لله وحده، ولا يوجد أحد غيره يعيش إلى الأبد، وستعودون إليه في يوم القيامة ليجزيكم على أعمالكم، سواء كانت خيرا أو شرا.