الفرق بين قوله تعالى ليعذبهم ومعذبهم
القرآن الكريم هو لغة البيان التي استخلص منها العلماء علوم الكلام، والتي تتضمن علم التحويل والصرف والبلاغة وغيرها من العلوم التي تظهر عظمة هذا الكلام الرباني الذي لا يستطاع مضاهاته، كما في قوله تعالى: “قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا” [سورة الإسراء: 88]. ومن الآيات التي حملت إعجازا بيانيا عظيما آية الأنفال: “وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون” [سورة الأنفال: 33]، وهذا يظهر الفرق بين “ليعذبهم” و”معذبهم.
الفرق بين قوله تعالى ليعذبهم ومعذبهم
وهنا يتبادر إلينا الإعجاز العلمي في الآية الذي يطرح أمامنا سؤال هام وهو: لماذا عبَّر بالمضارع في (يعذبهم) ، وعبَّر باسم الفاعل في (معذبهم)؟ في قول الله تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وهنا يجب أن نتستعرض بالشرح كل ما جاء حول هذه الآية:
أولًا: تأويل علماء التفسير للآية
جاء الشطر الأول من الآية الكريمة وهو { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } في جميع كتب التفاسير بأن سنة الله في خلقه عدم نزول العذاب في قوم ورسولهم فيهم ، وجاء الشطر الثاني {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} بالعديد من التأويل والتفاسير وقد اختلف العلماء في تفسير المستغفرين وانقسموا يهم إلى مذاهب:
1- الأول: المستغفرون هم المسلمون في مكة الذين هم من المستضعفين بين المشركين.
2- الثاني: يُعتقد أن المستغفرين الذين كانوا يطوفون بالكعبة ويستغفرون الله كانوا من المشركين، ولذلك منع الله عذابهم عنهم.
3- الثالث: يعلم الله أن هؤلاء سينجبون ذرية تؤمن بالله وتستغفره.
3- الرابع: المعنى هو إذا توبوا واعتنقوا الإسلام واستغفروا، لن يعاقبوا ، لذلك هذه الآية تدعو وتحث على الإسلام بهدف طلب المغفرة.
ثانيًا: الاختلاف اللفظي بين (معذبهم – يعذبهم)
تم ذكر الآية بكلمتين هما (ليعذبهم)، قال الله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}، و (معذبهم)، قال الله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، وعند النظر إلى الكلمتين، نجد ما يلي:
في اللفظ الأول “ليعذبهم”، تجتمع معًا كلمة المنفي “ما كان” مع حرف النفي المؤكد “لام” وكلمة الجحود “ليعذبهم.
جاء الخبر وفي اللفظ الأول كانت هناك جملة فعلية تستخدم الفعل المضارع (يعذبهم)، وهو خبر ليعذبهم.
في خبر (وما كان) في اللفظ الثاني (معذبهم)، فإن (معذبهم) هو اسم فاعل مفرد .
في جملة الحال في اللفظ الأول (وأنت فيهم)، الخبر فيها شبه جملة (فيهم).
في جملة الحال في اللفظ الثاني (وهم يستغفرون)، الخبر يتضمن جملة فعلية بفعل مضارع (يستغفرون).
ثالثًا: أسباب الاختلاف اللفظي
السبب الأول: تأكيد النفي
ويأتي ذلك من خلال اجتماع لام الجحود والكون المنفي (ما كان ليعذبهم)، وهذا ما ذكره العديد من الأئمة مثل القاسمي والنيسابوري والألوسي وغيرهم من الأئمة الذين أوضحوا هذا الجانب البلاغي في الآية، حتى أن الإمام الزمخشري رحمه الله قال لتأكيد هذا المعنى: “اللام للتأكيد على النفي، والدلالة على أن تعذيبهم وأنت بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة، لأن عادة الله وقضية حكمته أنه لا يعذب قوما عذاب استئصال ما دام نبيهم بين أظهرهم وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم.
السبب الثاني: التجدد والاستمرارية
تم استخدام التعبير بالمضارع “ليعذبهم” للدلالة على حدوث العذاب وتجدده، وهذا يعني أن العذاب مرهون ببقاء الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، وقد يتجدد الأمر ويصبح له شأن آخر بعد رحيل الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم
يأتي التعبير باسم الفاعل “معذبهم” للدلالة على الثبوت والاستمرار، والمعنى هنا هو أن زوال العذاب هو أمر ثابت مع الاستمرار في الاستغفار، لأن الاستغفار هو المانع الفعلي للعذاب
وقد طرح السامرائي بيان يوضح فيه هذا الاختلاف اللفظي ، قال فيه : ” فقد جاء في صدر الآية بالفعل: (ليعذبهم) وجاء بعده بالاسم: (معذبهم) وذلك أنه جعل الاستغفار مانعًا ثابتًا من العذاب بخلاف بقاء الرسول بينهم فإنه -أي العذاب- موقوت ببقائه بينهم. فذكر الحالة الثابتة بالصيغة الاسمية والحالة الموقوتة بالصيغة الفعلية”
آيات في الاستغفار وأهميته
-واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما [سورة النساء: 106]
– {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [سورة النساء: 110]
– {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } [سورة نوح: 10-12]