اسلاميات

الفرق بين الفتوى والاستفتاء

إن الله تعالى أمر العباد بطاعته وعبادته فيما شرع لهم ، وأمرهم أن يتعلموا ما تستقيم به عبادتهم تابعين سنة نبيهم محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وقد جعل بعض العلم فرضًا عينيًا يجب على كل فرد وهو ما يحتاجه في تأدية عبادته الواجبة ، والفتوى من أهم سبل التعلم إذ إن جميع فئات المجتمع المسلم تشترك في اتخاذها سبيلاً له .

أهمية الفتوى

الفتوى مشروعة للجميع، بما في ذلك الطلاب والمتعلمين الصغار والمتوسطين والعلماء الذين يقلدون الآخرين. إن الفتوى تلعب دورا هاما في المجتمع، وأما العلماء المجتهدون فهم يعتبرون أنه لا يجوز لهم التقليد مع وجود الأدلة. وقد أولوا العلماء اهتماما كبيرا لهذه المسألة، وبحثوا فيها في أبواب أصول الفقه وصنفوا فيها تصانيف مختلفة طويلة ومختصرة .

تحظى هذه المسألة بأهمية كبيرة وملحوظة في حياة الناس، ولذلك تم إطلاق برامج خاصة بها على قنوات الإعلام المختلفة، سواء كانت مقروءة أو مسموعة أو مرئية، وقد تباينت مناهج تلك البرامج بشكل واضح، مما أسفر عن وجود نواحي سلبية وإيجابية لكل منها، وتفاعل مختلف من الجمهور .

 برامج الفتوى

تظهر برامج الفتوى في الإعلام المعاصر في نوعين من الفتوى. النوع الأول هو البرامج المسجلة التي تستقبل أسئلة الجمهور قبل بث الحلقة، وتعرض على المفتي ليقوم بفحصها وإعداد الإجابات والتوجيهات، ثم يتم عرض الحلقة على شكل أسئلة وأجوبة، يلقيها المفتي أو تلقى عليه الأسئلة ويقوم هو بالإجابة. ويتميز هذا النوع بعدم ارتجالية المفتي التي قد تؤدي إلى الخطأ. أما النوع الثاني فهو البرامج المباشرة التي يتم فيها طرح الأسئلة على المفتي أثناء عرض الحلقة ويقوم بالإجابة على الفور .

الفتوى واختلاف الفقهاء

لكل عالم مذهب معين ينتمي إليه، وله اجتهادات خاصة يفتي بها بناء على ما يراه من الأدلة المرجحة، وهذا هو سبب الاختلاف بين المذاهب، وكذلك بين أقوال العلماء الخاصة المستندة إلى اجتهاداتهم. وكل بلد في العالم الإسلامي يعتمد مذهبا معينا يعمل فيه مؤسساته الشرعية وفقا لتلك الاختلافات، ويفتي به علماؤه، أو قد يكون أساسا لاجتهاداتهم الشخصية. وهكذا نتعرف على تقاليد تلك البلدان، وعلى تلك الفتاوى يسلك أبناؤها الطريق ويورثون عاداتهم من جيل إلى جيل .

وكان الإفتاء بغير المذهب السائد يعتبر أمرا غير مرغوب فيه، ويؤدي إلى النزاع والاختلاف والتفرق. لذلك، قام العلماء المتقدمون بالإشارة إليه وشرحوا خطورته وما يسببه. وفيما يتعلق بتتبع رخص المذاهب من المفاسد، قال الشاطبي – رحمه الله – في حديثه أنه يؤدي إلى ترك ما هو معلوم والالتجاء إلى ما ليس بمعلوم، لأن المذاهب الخارجة عن مذهب مالك في هذه الأمصار غير معروفة. وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن السعدي – عليه رحمة الله – في رسالته حكم شرب الدخان وأن تتبع العوام للعلماء واجب، فلا يجوز أن يتبع العوام هواهم ويفسروا الأمور، ويستندوا إلى وجود بعض العلماء في تلك الأمصار يحللونه، يعني الدخان. فإن هذا التفسير من العوام لا يحل باتفاق العلماء، فالعوام يتبعون علماءهم ولا يكونون مستقلين، وليس لهم أن يتجاوزوا أقوال علمائهم. ومثل هذا التفسير الفاسد الذي ينتشر بين العوام اتباعا للهوى وليس اتباعا للحق والهدى، يمكن أن يقول بعضهم بوجود بعض علماء الأمصار يحلون ربا الفضل، فعلينا أن نتبعهم، أو بوجود من لا يحرم أكل ذوات المخالب من الطير، فعلينا أن نتبعهم. وإذا فتح هذا الباب، سيفتح على الناس شرا كبيرا، وسيصبح سببا في انحلال العوام عن دينهم .

الفتوى واختلاف المجتمع

كل أحد يعرف أن تتبع مثل هذه الأقوال المخالفة لما دلت عليه الأدلة الشرعية ، ولما عليه أهل العلم من الأمور التي لا تحل ولا تجوز ، والواقع المعاصر لا يعترف بالحدود الجغرافية والأعراف الإقليمية ، وهذه إشكالية كبيرة ، إذ يفتي المفتي بفتوى تبيح أمرًا قد استقر في أذهان فئة معينة تحريمه ، فهذا يحدِثُ إشكالاً كبيرًا .

هذه الفتاوى صالحة لمجتمعات معينة، ولكنها إذا تم تطبيقها في مجتمعات أخرى مثل مجتمعنا، ستسبب فوضى كبيرة، حيث لا يقبل أولياء الأمور ورجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمجتمع بأسره، كشف الوجه، بل يعاقب على ذلك. وليس النساء الحريصات على العفة والستر في مجتمعنا يرضين بالظهور أمام الأجانب إلا بالعباءة السوداء التي تغطي البدن بأكمله، ولا يرضين باستخدام غيرها من الأغطية أمام غير المحارم .

إذا تعامل المجتمع مع مثل هذه الفتوى بالرفض التام والتجاهل، فإن الوضع سيكون مقبولًا طبيعيًا، حيث يستفيد غيره منها، ولكن الواقع يجعل مثل هذه الفتاوى تجر وراءها محظورات متعددة .

تعريف الاستفتاء والمستفتي

عند البحث عن الفتوى والاستفتاء، نجد أن المستفتي هو الركن الآخر لعملية الفتوى، وهو جزء مهم ويحيط به أمور خطيرة، من بينها اتباع الهوى وتتبع الرخص، وإن اتباع الهوى قضية خطيرة، وقد غفل عنها الكثيرون واعتبروا أن إذا كانت الفتوى تبيح شيئا محظورا، فقد أصبح حلالا، دون النظر إلى المفتي ووقت الفتوى والظروف المحيطة بها، ودون النظر إلى ضوابط الفتوى التي حددها العلماء .

صور خاطئة للاستفتاء

من الصور الخاطئة التي تنتشر بين الناس ، أن ينتشر بين الناس أن في المسألة رأيين ، فيعمد بعض الناس إلى أخذ الرأي الأقرب إلى هواه دون استفتاء ، وهذه الصورة من أكثر الصور تساهلاً ، فربما تكون المسألة المختلف فيها لا تنطبق تمامًا على مسألة الشخص الخاصة مثال ذلك أن هناك رأيين في زكاة الحلي المعد للاستعمال ، فيأخذ بعض الناس بقول من رأى أنه لا زكاة فيه ، دون أن يستفتي ويوضح حال ذلك الحلي الذي عنده ، وقد يكون ذلك الحلي غير مستعمل ولا معد للتجارة بل هو قد احتفظ به ادخارًا وكنزًا ، فهنا يتغير الحكم ، والغالب أنه لم يختر هذا القول مع ترك السؤال إلا لتساهله .

في حال وجود آراء متعددة في مسألة ما، يميل المستفتي إلى اختيار الرأي الأقرب إلى هواه، دون النظر إلى علمه أو ورعه أو دليله، وهذا يعد تحكمًا بالهوى في دينه .

عدم معرفة حكم مسألة معينة والاستفسار من عالم موثوق به، ثم اتباع فتواه التي لا يرغب فيها الفرد والبحث عن عالم آخر ليصدر فتوى تناسب رغباته؛ هذا إنما يعتبر اتباعا للهوى في الدين، وهو يساهم في إثارة الرخص المنهي عنها، ويؤدي إلى مفاسد كبيرة جدا، فهي تفسد دين الفرد وعبادته وتعامله مع الآخرين، وتؤدي إلى انفصالات واختلافات، وتتسبب في النزاعات والتباغض، كما أنها تفقد الحدود المعروفة والمتفق عليها بين الناس، ويعتبر العرف ضابطا لجانب من الأحكام .

إن تتبع الرخص قد يؤدي إلى خرق إجماع الأمة ، بتلفيق قول من مجموعة رخص ، مثال ذلك أن بعض العلماء لا يشترط الولي في النكاح وبعضهم لا يشترط الشهود ، وبعضهم لا يشترط الصداق ، فلو جمع بين هذه الأقوال لتولد قول آخر ، بجواز النكاح بلا ولي ولا شهود ولا صداق ، وهذا لم يقل به أحد، فهو مخالف لإجماع الأمة .

ضوابط عملية الاستفتاء

هناك العديد من الضوابط التي يجهلها الكثيرون، وبسبب الجهل بها يتم التساهل في متابعة الرخص، وحتى يرون بعضهم أنها جائزة وسائغة، ولذلك أود الإشارة هنا إلى بعض تلك الضوابط .

يجب على المستفتي أن يستفتي فقط من العالم الثقة المجتهد، ولا يجوز له أن يستفتي من شخص غير ذلك إلا إذا كان هذا الشخص ينقل رأي مجتهد، وإذا كان هناك أكثر من مجتهد، فيمكنه اختيار أي منهم. وإذا استفتى المستفتي مجتهدًا، فلا يجوز له أن يستفتي أحدًا آخر إلا إذا وجد شخصًا أكثر مجدّدًا منه، وفي هذه الحالة يمكنه الاستفتاء منه .

إذا تعارض لديه فتاوى مجتهدين، يجب عليه الاختيار بينهم، وأن يختار فتوى أفضل المجتهدين في العلم والورع والتقوى. هكذا نصح العلماء واختلفوا في هاتين المسألتين. إذا لم يكن لديه معرفة بالحكم، يجوز له أن يستفتي من أي شخص جاد في الاجتهاد، أما إذا كان يعلم أن هناك توجهات مختلفة بين المجتهدين في مسألته، حيث يحرمها واحد ويبيحها الآخر، أو يجبها واحد ولا يجبها الآخر، يجب عليه أن يتبع فتوى المجتهد الأكثر توثيقا في العلم والورع والتقوى .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى