اسلاميات

الإسلام بين حرية العقيدة والإكراه عليها

يتوهم بعض المشككين في الدين الإسلامي وجود تناقض في القرآن، ويستدلون على ذلك بالإشارة إلى قوله تعالى: {لا إكراه في الدين} [البقرة: 256]، وقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29]، ويشبهون هذه الآيتين ببعضهما، متجاهلين حقيقة أن الله تعالى أقر في الآية الأولى بأنه لا يجب إكراه الناس في الدين، ومع ذلك جاءت الآية الثانية بأمر من النبي والمسلمين بقتال الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يتبعون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، حتى يدفعوا الجزية وهم مستضعفون، ومن هذا يصف هؤلاء الذين يتشككون بالدين بأنهم يريدون إيهام الناس بوجود تناقض في القرآن الكريم.

للإجابة على هذه الشبهة، يجب أولاً معرفة سبب شرع الله تعالى الحرب والقتال
شرع الله سبحانه وتعالى القتال لأسباب محددة وضحها د. البوطي وهي:
1. الظلم والعدوان عن أرض الإسلام لقوله سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]

2. الحفاظ على العهود والمواثيق، فإذا كانت هناك عهود أو مواثيق بين دولة الإسلام ودولة أجنبية، وتجاوزت تلك الدولة هذه العهود، فإن ذلك يعطي مبررا لمحاربتها بناء على قوله تعالى: `{وإن نكثوا أيمـٰنهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقـٰتلوا أئمة الكفر} [التوبة: 12]`، ويمكن فهم من هذه الآية أنه في حالة خرق المشركين لعهودهم، يجوز محاربتهم.

3. إزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة الإسلامية، فمن المعلوم أن دعوة الإسلام دعوة عالمية، وأن بعثة النبي صل الله عليه وسلم للناس كافة، ومعنى هذا أنه يجب أن تصل إلى كل أمة وأن تدخل كل بلد، فكل من يقف في طريق الدعوة ويصد عن تبليغها من طواغيت متجبرين وحكام متألهين، يجب أن يزاحوا عن الطريق؛ حتى تصل الدعوة إلى الشعوب نقية صافية واضحة، والشعوب هي التي تقرر مصيرها: إن شاءت أن تدخل في الإسلام عن طواعية واختيار، وإن شاءت أن تبقى على دينها وتدفع الجزية إلى الدولة الإسلامية مقابل حمايتها من العدوان.

يتضح هنا أن الهدف من القتال هو إزاحة الحكام الظالمين والطغاة، على مثال ربعي بن عامر عندما تحدى رستم، قائد جيش الفرس، وقال: “إننا لم نأت من أجل إخراج الناس من عبادة البشر إلى عبادة الله وتحويلهم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”. وإذا كان الإسلام قد فرض نفسه بالقوة والإكراه، فلما قبل الرسول الجزية من أهل “أيلة” وهي بلدة في فلسطين تعرف الآن باسم “إيلات” ومن أهل “جرباء” ومن أهل “أذرح” بعد انسحاب الجيوش الرومانية منهم في يوم تبوك، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض الحرب ضد سكان هذه البلدان بسبب تمسكهم بالسلم، وذلك بناء على قوله تعالى: “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم”. [الأنفال: 61]

لا إكراه في الدين:
نزلت الآية خاصة في الأنصار، حيث كانت المرأة منهم إذا كانت مقلاتا، وولدت ولدا تنذر لتجعلنه في اليهود ملتمسة بذلك طول بقائه، فجاء الإسلام وفيهم من هؤلاء النسوة، فلما أجليت النضير، قالت الأنصار: يا رسول الله، أبناؤنا وإخواننا فيهم!! فسكت النبي صل الله عليه وسلم عنهم، فنزلت الآية: “{لا إكراه في الدين}” [البقرة: 256]. وقال النبي صل الله عليه وسلم: “خيروا أصحابكم، فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فهم منهم، فأجلوهم معهم.” ومع ذلك، فإن حكمها عام وشامل لجميع الناس، والعبرة بعموم اللفظ، ليس بخصوص السبب، كما هو معروف في الأصول.

الفرق بين الكفار وأهل الكتاب:
الكفار لم يؤمنوا بالله إلها واحدا، بل كانوا يؤمنون بشركاء معه، في حين أن أهل الكتاب يؤمنون بالإله والرسول والكتاب السماوي، وبذلك هم أقرب إلى الإيمان. ولذلك حزن النبي، صلى الله عليه وسلم، وصحابته عندما غلب الروم في أدنى الأرض. ولماذا حزن النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أن الروم سيقفون ضده أيضا؟ لأنهم يؤمنون بأن للكون خالقا واحدا، وأن له رسل يوحي إليهم، وأن له كتبا منزلة، ولكن الأمر مختلف بالنسبة للمشركين، حيث يكفرون بالله، وهذا هو قمة الكفر. وعلى الرغم من أن بعض أهل الكتاب وقفوا مع المشركين ضد رسول الله، فإن قلبه، صلى الله عليه وسلم، كان معهم لأنهم أهل إيمان بالقم.

فرضت الجزية على أهل الكتاب تكريما لهم، نظيرا للكفار الذين لا تقبل الجزية منهم، وقد شرعت الجزية مقابل حصولهم على الأمان والحماية، وهذا يحفظ دمائهم، ومن هنا فإننا نجد أن المسلمين فتحوا بلادا غير إسلامية واستطاعوا أن يسيطروا عليها دون قتلهم، بل أبقوا عليهم، وإبقاء الحياة نعمة من نعم الإسلام عليهم، وهناك نعمة ثانية وهي أنه لم يفرض عليهم الدين، بل حفظوا حريتهم في اختيار الدين الذي يرونه، ومن هنا تحققت قول الله تعالى {لا إكراه في الدين} [البقرة: 256].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى